سيد من سادات الرجال ، وأحد العظماء الذين عرفتهم في حياتي ، رحل سريعا كما يفعل العظماء ، دون أن يترك لأحد فرصة توديعه.
لم يكن محمد المزروعي مستشار ولي عهد أبوظبي للثقافة ، لم يكن موظفا يؤدي عمله فقط ، بل كان كريما حلو النفس ، حييا مبتسم الوجه، شهما يبذل الغالي والنفيس لأصدقائه ولكل من أتاه يسعى بحاجة من حوائج الدنيا.
غير هذا كان محنكا يتطلع دائما إلى الأمام ، يقيس موازين الواقع ويضيف المقادير التي يراها ليكون مستقبل الثقافة الاماراتية أفضل.
كان دائما مشغولا بهاجس الوطن ، حيث كانت الإمارات هي شغله الشاغل ، وكان يعجبه من الرجل ولاءه لوطنه وقادته.
كيف لي أن أنسى تلك الليالي الجميلة التي قضيناها في مجلسه العامر، الذي ما رأيته قط إلا عامرا ، تلك الليالي التي كنا نجتمع عنده من كل أقطاب الوطن العربي ، أدباء ، شعراء ، فنانون ، دبلوماسيون، نتبادل أطراف الحديث معه ، وبشكل عفوي ، كان يضحك مع هذا ، ويتبسم لهذا ، ويعير إنصاته لذاك ، كان مع الجميع ، محاولا أن يقسم نفسه بالتساوي بيننا ، حتى لا يشعر أحدنا أن تقديره أقل عند «أبو خلف» من الآخرين.
لم تزده المناصب إلا تواضعا ، كما هو حال الإماراتيين ، كان إماراتيا حتى في تواضعه ، ترقى حتى أصبح أحد أكثر المقربين من سمو الشيخ محمد بن زايد ومحل ثقته ، ومع كل منصب يرتقي له كان يزداد تواضعا.
في اعتقادي أن عبقريته في الإدارة تكمن في معرفته للرجال ، في تبصره في امكانات النفوس، وعدم المجاملة في هذا الموضوع ، كان يعرف أيهم يصلح ليسند إليه تلك المهمة أو تلك ، ولا يقف عند هذا الحد، بل يدعم من يراه مناسبا حتى ينجح ، ثم ينسب النجاح لفريق العمل ، لهذا كل إدارة يترأسها المزروعي كانت ترتفع بسرعة إلى القمة ، كهيئة إبوظبي للسياحة والثقافة ، التي كان أول من نقلها نقلة نوعية على مستوى الوطن العربي ، حتى أصبحت منارة يهتدي إليها كل الأدباء العرب . ونذكر هنا دعمه لمشروع «كلمة» للترجمة ، الذي أصبح علامة عربية فارقة . ومن أعماله أيضا اهتمامه بالموروث الإماراتي ، وتأصيل الهوية الإمارتية ، في كل جانب من جوانب عمله. وكان يقيم شبكة واسعة من العلاقات الحميمية مع كافة الإدباء العرب ، كنت أراهم في مجلسه ، كبار الأدباء ، وكبار الشعراء ، والفنانون العظماء ، هكذا بلا حاجز بيننا وبينهم ، كان يوفر لنا الاحتكاك بهم والأخذ من تجاربهم ، ويوصيهم بنا خيرا.
الآن رحل ، وبقيت محبته في صدور الرجال ، بارزة مثل دلال قهوته، وساخنة مثل دمعة فراقة. رحل ليكون مثالا يحتذى به في الوطنية ، وفي العطاء ، وفي الشهامة ، وفي الولاء.