
خلال القمة العالمية للاقتصاد الإسلامي في دبي أعرب محافظ بنك الكويت المركزي محمد يوسف الهاشل خلال كلمته عن تقديره الصادق للرؤية المستقبلية وللقيادة الحكيمة لحضرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، حفظه الله ورعاه، وهي رؤية جديرة بالثناء حقاً.
وشكر أيضاً معالي وزير شؤون مجلس الوزراء والمستقبل، محمد عبدالله القرقاوي، على دعوته الكريمة له للتحدث أمام هذا الحشد الكريم من المختصين والمهتمين.
وأضاف «إن ما يثلج الصدر في هذا المؤتمر، وبوجه خاص، هو البحث في إطار واسع لموضوع جدير بالاهتمام يغطي الجوانب الإنسانية لأهداف التنمية المستدامة، انتقالا إلى مناقشة الابتكارات التمويلية ومن ثم صناعة التمويل الإسلامي الحلال. وهذا الطابع الشامل الذي تتسم به أعمال المؤتمر إنما يعكس الجوهر الحقيقي للنظام الاقتصادي الإسلامي، الذي يغطي معظم مجالات حياتنا؛ ولذا فإن محاولات حصره بجوانب محددة من تلك المجالات إنما يعتبر تحدياً وانتقاصاً من شموليته.
تتركز أعمال هذه الجلسة حول موضوع « تمويل أهداف التنمية المستدامة من خلال مزيج من التمويل» ولذلك، عندما وصلتني الدعوة الكريمة بشأن هذا الموضوع المثير للاهتمام والمحفز للتفكير، سألت نفسي: هل يمثل التمويل تحدياً لأهداف التنمية المستدامة، خاصة وأن العالم يشهد في الوقت الراهن فيضاً من السيولة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل طبيعة « أهداف التنمية المستدامة» هي التي تجعل من توافر هذا التمويل أمراً صعباً، أم أن حجم هذه الأهداف والطموحات هي التي تشكل ذلك التحدي. والأهم من ذلك أيضاً هو تحديد أفضل السبل لمعالجة مسألة التمويل؟ فهل ينبغي علينا إصلاح الفجوات في مجرى التدفقات المالية الحالية، أو تعزيز النظام الاقتصادي الذي يسير على نفس الفلسفة التي ترتكز عليها « أهداف التنمية المستدامة»؟ ولذلك سأحاول في كلمتي هذه أن أقدم وجهة نظري ورؤيتي حيال تلك التساؤلات.
أهداف التنمية المستدامة وتحديات التمويل
واستطرد «دعونا نستذكر سوياً الاتفاق الذي توصل إليه قادة العالم مع بداية هذه الألفية، والقاضي بمكافحة الفقر في أبعاده وتشعباته المتعددة. وقد تُرجِمت الرؤية الشاملة لذلك الاتفاق بقيام الأمم المتحدة بوضع ثمانية أهداف للإنمائية الألفية، كما أدى تنسيق الجهود وحشد التعاون على المستوى الدولي في مراحل لاحقة إلى تخليص أكثر من مليار شخص من براثن الفقر المدقع، وذلك بالتزامن مع تحسين مستويات الصحة والتعليم وتعزيز التنمية البشرية بوجه عام. وقد شجّع النجاح الذي تحقق مع بلوغ أهداف الإنمائية الألفية إلى إطلاق مجموعة جديدة من أهداف التنمية المستدامة في شهر سبتمبر من العام الماضي (2015) ركَّزت على تحديد جملة من الأولويات والتطلعات للتنمية العالمية. والجدير ذكره بأن أهداف التنمية المستدامة الجديدة المقترحة، والتي يبلغ عددها سبعة عشر هدفاً، هي أبعد طموحاً وأكثر شمولية من سابقاتها لأنها تبنت مبدأ أن احتياجات التنمية ينبغي أن تتسم بالاستقرار من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ورغم أن تلك الأهداف هي حقاً نبيلة، إلا أن تحقيقها يواجه تحديات توفير التمويل الكافي لها.
ولكن أيها السيدات والسادة، قد يتساءل المرء: هل التمويل حقاً هو العقبة في ظل وجود سيولة عالمية عالية متاحة؟ فبعد سنوات عديدة من السياسات النقدية التوسعية من قِبل البنوك المركزية الكبرى حول العالم، وبلوغ العائد على السندات مستويات منخفضة تاريخياً، دفع ذلك بالمستثمرين العالميين إلى البحث عن عوائد مجدية ولكن دون جدوى. علماً بأن إجمالي أصول أكبر ألف مصرف عالمي تبلغ حوالي 115 تريليون دولار أمريكي، ومعظمها يواجه تحدي كبير يتمثل في تراجع هوامش أرباحها وسط أسعار فائدة قريبة من الصفر إن لم تكن سالبة. وبالتالي، فإن النظر في حجم التمويل المتاح عالمياً، يُصوِرُ للبعض بأن التمويل لا يشكل بالضرورة شرطاً ملزماً لتحقيق « أهداف التنمية المستدامة»، لكن الواقع مختلف تماماً؛ إذ أن إيجاد التمويل الكافي « لأهداف التنمية المستدامة» لا يزال يشكل تحدياً هاماً، كما أن تلك القضية ذات بعدين كمي ونوعي على حدٍ سواء.
بدايةً، دعونا ننظر في الجانب الكمي. وهنا نرى بأن حجم التمويل الإجمالي المطلوب هو كبير جداً نظراً للصفة الشمولية التي تميز طبيعة « أهداف التنمية المستدامة»، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن المبالغ الضرورية لتحقيق التقدم المطلوب حيال « أهداف التنمية المستدامة» تتراوح ما بين 3.5 إلى 5 تريليون دولار أمريكي سنوياً. وتبدو أهمية ومقدار هذا المبلغ، عند مقارنته بقيمة إجمالي صناديق الثروة العالمية مجتمعة والتي تبلغ حوالي 7.4 تريليون دولار أمريكي. ولذلك، وحتى لو تم تخصيص هذا المبلغ بأكمله لتمويل « أهداف التنمية المستدامة»، فإنه بالكاد يلبي احتياجات التمويل لمدة عامين. وبالنظر إلى إمكانية توفير الأموال من خلال الوسائل والأطر المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية – على الرغم من نموها اللافت خلال الأعوام القليلة الماضية – فإنها تمثل مجتمعة، حتى بعد إدراج سوق الصكوك، ما يزيد قليلاً عن 2 تريليون دولار أمريكي. ولا شك أن تلك الأرقام وهذا الواقع يؤكدان على اتساع الفجوة بين التمويل المتاح والتمويل المطلوب لتحقيق « أهداف التنمية المستدامة».
أما الجانب الثاني والأكثر أهمية في التمويل فهو ذو طبيعة نوعية إذ أنه وبغض النظر عن مقدار التمويــــــل المتــاح على الصعيد العالمي، فـــــإن جــــزءاً كبيراً منه لا يمكن توجيهه على الفور وبســهولة « لأهداف التنمية المستدامة» وذلك نظراً لطبيعة «الصالح العالم» التي تميز هذه الأهداف. وحيث أن معظم « أهداف التنمية المستدامة» ترمي إلى تحقيق تقدم مستدام في النواحي الاجتماعية، الاقتصادية، والبيئية في مجتمعاتنا، فإن تلك المشاريع قد لا تكون مجدية ومربحة في مراحلها الأولى بالقدر الكافي لجذب التمويل من القطاع الخاص.
وعلاوة على ذلك؛ فإن المجتمعات التي تحتاج إلى هكذا نوع من الاستثمارات قد تكون الأكثر فقراً وغير قادرة على الاستدانة بسعر السوق، وكذلك الحال بالنسبة للدول الأقل نمواً أو ذات الدخل المنخفض فإن دخولها إلى الأسواق العالمية لجمع الأموال يظل تحدياً كبيراً بسبب ضعف جدارتها الائتمانية.
وتأسيساً على ما تقدم، فإن الدور الذي ينبغي أن تضطلع به حكومات الدول في المساعدة لتوفير التمويل المطلوب، على الأقل في مراحله الأولى، يعتبر دوراً حيوياً وهاماً للتحفيز على حشد الاستثمارات من قبل القطاع الخاص. إلا أن ضيق الحيز المالي المتاح لمعظم الحكومات ومحدوديته لا يترك لها مجالاً واسعاً للمناورة وذلك في ضوء جمود المصاريف في موازناتها من جهة، وفي ضوء غياب الإصلاحات الهيكلية المصاحبة من جهة أخرى.
تحقيق التنمية المستدامة في نظام اقتصادي إسلامي
وأضاف «إن تركيز الإجابة على السؤال المحوري حول كيفية تمويل « أهداف التنمية المستدامة» في ظل الظروف القائمة، ربما يظل ضمن نطاق ضيق. وعليه، فباعتقادي أننا قد نكون بحاجة للتفكير بعمق في نظام مالي ... بل نظام اقتصادي، ينسجم بشكل طبيعي مع المواضيع الرئيسية « لأهداف التنمية المستدامة».
ومن هنا، فإن دور النظام الاقتصادي الإسلامي يستحق منا جميعاً اهتماماً أكبر ومداولات أكثر جدية، أخذاً في الاعتبار ما ينطوي عليه من اهتمام حقيقي بشأن أحوال ورفاهية الناس وعلى مستقبل كوكب الأرض على حدٍ سواء. وهنا أود أن أسلط الضوء بشيء من الإيجاز على بعض النقاط ذات الصلة بهذا المحور.
أولاً، إن النظام الاقتصادي الإسلامي يعزز تخصيص الموارد في سبيل تحقيق الرفاهية للمجتمع بأسره. ذلك أن إنشاء صلة لا تنفصم بين التمويل والاقتصاد الحقيقي، قد يؤدي بالتالي إلى تشجيع المشاركة في المخاطرة الاقتصادية ويساعد أيضاً على تحسين النمو وخلق فرص عمل. فالنظام الإسلامي يؤكد على أهمية وضرورة توجيه الائتمان المصرفي إلى قنوات استثمارية منتجة وليس إلى استهلاك مفرط أو أنشطة مضاربية، كما يستند إلى وجوب المشاركة في عملية تقاسم الأرباح والخسائر والتي تعتبر أمراً حاسماً وبالغ الأهمية لضمان العدالة وتقليص التفاوت في الدخل.
وكما لاحظنا خلال الأعوام القليلة الماضية، فقد أدى الانحراف عن تلك المبادئ إلى حدوث انهيارات مالية ترتب عليها تكاليف اجتماعية واقتصادية كارثية. وحتى خلال فترات الدعم النقدي الكبير، فقد شهدنا الكثير من الإقبال على المخاطرة المالية والقليل من الإقبال على المخاطرة الاقتصادية التي يحتاجها العالم بصورة ماسة لخلق فرص عمل ورفع معدلات النمو.
ثانياً، إن النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يستند بطبيعته إلى القيم والأخلاق، يوجّه ويُرشد الأفراد إلى مراعاة احتياجات إخوانهم في الإنسانية كما لأنفسهم، وذلك كما قال رسولنا الأعظم (عليه الصلاة والسلام): « أَحبَّ للناس ما تُحبُّ لنفسك». فهذه هي « القاعدة الذهبية» لمجتمع صالح، حيث تتناغم أفعال الأفراد وتصرفاتهم مع الفائدة الكلية للبشرية جمعاء. واستطراداً، فإن من شأن ذلك تعزيز القيم التي يحظر فيها القيام بأي شيء يضر بمصالح وترابط المجتمع، حتى ولو كان في ذلك فائدة للفرد.
وانطلاقاً مما تقدم، فإن هذا النهج الأخلاقي في الأنشطة الاقتصادية الإسلامية يكتسب أهمية خاصة في حالة « أهداف التنمية المستدامة»، حيث يمكن إحراز تقدم ملموس عن طريق الحد، وإن لم يكن القضاء تماما، على طرق وأنماط استهلاكنا وإنتاجنا التي تلحق الضرر البالغ في بيئتنا وتلوث مجتمعاتنا. وكما يأمرنا القرآن الكريم: « كُلُوا واشْربُوا وَلاَ تُسْرفُوا إنَّه لاَ يُحِبُّ الـمُسرِفِين»، فإن نبينا محمد (عليه أفضل الصلاة والسلام) حثنا في هذا الإطار على عدم الإسراف في الماء حتى ولو كنا على ضفاف نهرٍ جارٍ.
وتأسيساً على ما أشرت إليه آنفاً، فإنه ليس من المستغرب أن يلاقي الحرص على الموارد الطبيعية الثمينة ذلك الصدى الجيد في ظل تركيز العالم المعاصر في الوقت الراهن على أهمية موضوع الاستدامة. فعلى سبيل المثــال، اعتبرت الأمم المتحدة بأن التنمية لكي تكون مستدامة عليها أن « تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها». وفي ذات السياق، يقوم المستثمرون في جميع أنحاء العالم في الوقت الراهن بتبني استراتيجيات استثمارية مستدامة، مسؤولة، ومؤثرة.
ومع التوسع في البحث، يصبح من الواضح بأن النظام الاقتصادي الإسلامي يعزز من القيم ذات البعد العالمي، بغض النظر عن المعتقدات الدينية. وكما قال سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في كلمته التي ألقاها في هذا المؤتمر العام الماضي « الاقتصاد الإسلامي ليس مجرد أداة لإنتاج السلع وبناء الثروات؛ إنه حاضنة للقيم والأخلاق التي تساهم في رفع وتقدم البشر».
فبالإضافة أيضاً إلى أوجه التشابه العريضة، فإن المبادئ الأساسية للنظام الاقتصادي الإسلامي تتوافق مع العديد من « أهداف التنمية المستدامة». فعلى سبيل المثال إن مبدأ المشاركة في التمويل الإسلامي، المبني على تقاسم الأرباح والخسائر، يمكن أن يساعد في معالجة الظلم والغبن والحد من اللامساواة وتقليص الفوارق، وهو ما جــاء ضمن الهدف العاشر في وثيقة « أهداف التنمية المستدامة»(SDG-10) بشأن تقليص اللامساواة. وعلى غــــرار ذلك، فــإن الحظر الإسلامي للأنشطة
الضارة إنما يهدف إلى تعزيز السلام في المجتمعات، وهو ما يتطابق مع البنود الأساسية للهدف السادس عشر في «وثيقة التنمية المستدامة» (SDG-16) حول إيجاد مجتمعات مسالمة وشاملة لتحقيق التنمية المستدامة، وضمان تحقيق العدالة إلى الجميع وبناء مؤسسات فعالة ومسؤولة على جميع المستويات.
فضلاً عن ما تقدم، يمكن اللجوء إلى الأدوات المالية الإسلامية مثل الصكوك في تعبئة الموارد اللازمة لتمويل مشاريع المياه والصرف الصحي ( الهدف السادس (SDG-6))، والطاقة المستدامة بأسعار معقولة ( الهدف السابع (SDG-7))، وبناء البنية التحتية المرنة ( الهدف التاسع (SDG-9))، وتوفيــــر المأوى ( الهدف الحادي عشر (SDG-11)). إضافة لذلك، فـــــإن تركيز التمويل الإسلامي على النشاط الاقتصـــــادي الحقيقـــــي يمكن أن يساعد في تعزيـــز النمو وخلـــق فرص عمل، وهو ما يتجانس مع « الهدف الثامن»(SDG-8).
أخيراً وليس آخراً، فإن برامج العمل الخيري الإسلامي أو أدوات إعادة توزيع الثروات مثل الزكاة، والصدقة، والأوقاف، يمكن أن تلعب دوراً هاماً وحيوياً في التخفيف من حدة الفقر (هدف التنمية المستدامة الأول (SDG-1))، القضاء على الجوع (هدف التنمية المستدامة الثاني (SDG-2))، تحسين الصحة (هدف التنمية المستدامة الثالث (SDG-3))، والحد من عدم المساواة (هدف التنمية المستدامة العاشر (SDG-10)). وباعتراف الجميع، فإن ذلك يتطلب نقلة نوعية في طريقة تفكيرنا وفي أهمية وضع مجموعة علاجات لتلك الأدوات ليس فقط كجزء من طقوس دينية نمارسها، ولكن باعتبارها أداة استراتيجية للتنمية المستدامة. وعلاوة على ذلك، سوف تحتاج الحكومات إلى كسب ثقة الجمهور وتعزيز قدرتها على جمع الأموال بكفاءة وإعادة توزيعها بفعالية، ليس فقط لدعم الاستهلاك على المدى القصير، إنما من أجل بناء القدرات على المدى الطويل ذات التأثير الدائم على مجتمعاتنا.
في الختام، يتجلى من هذه المناقشة أن النظام الاقتصادي الإسلامي، عندما يتم تطبيقه استناداً إلى روحه الحقيقية، فإنه سيساهم إلى حد كبير في تحقيق « أهداف التنمية المستدامة». ومن الواضح أيضاً بأن التحدي الحاسم يكمن في تحويل تركيزنا في التمويل من «المتوافق مع الشريعة» إلى «النموذج القائم على الشريعة» بحيث لا تكون البنوك الإسلامية مجرد نسخة أخرى مماثلة للنظام التقليدي. ويتطلب ذلك دون أدنى شك بذل المزيد من الجهود الجماعية وتكثيفها من جانب الحكومات، المشرعين، المنظمين، الممارسين، والأكاديميين، وذلك للمساعدة على خلق بيئة مناسبة، يمكن من خلالها للنظام الاقتصادي الإسلامي أن ينمو ويزدهر، والذي سوف يساعد بدوره على تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية بصفة مستدامة. نعلم أن القيام بذلك قد يكون في الواقع مهمة شاقة، لكن كما قال العالمِ «أينشتاين»: «تكمن الفرص في خضم الصعوبات». وعليه، يحدوني الأمل بأن يوفر السعي لتحقيق « أهداف التنمية المستدامة» فرصة للاقتصاد الإسلامي لتحقيق أقصى إمكانياته في نهاية المطاف.