
حافظ من بين الشعراء الذين تعرضوا لهجوم كاسح من اقلام وألسنة غير المنصفين اوالجاهلية بلغه العرفان، بل وبالحياة العرفانية التي لا يدركها الا اهلها. وراح الكثير من هؤلاء يشككون في عرفانية هذا العارف الكبير من خلال التأشير على المفردات والألفاظ الواردة في شعره والتي يفهمون منها معان اخرى لاصله لها بالعرفان، بل وربما تصب –من وجهة نظرهم- في وديان اللاتدين، والانغماس في الملذات، واتباع الهوي وغير ذلك من مخترعات اخترعتها افكارهم القاصره ولصقوها به هكذا يقول عبدالرحمن العلوي والذي يضيف لاشك ان العرفان يشكل غرضاً مهماً من اغراض الشعر الفارسي، واذا كان «الحب» يؤلف الغرض الاكبر في هذا الشعر، فان العرفان والشعر يكمل كل منهما الآخر، ولا يستغني احدهما عن الثاني، ذلك لان الحب هو اساس العرفان، ولا يمكن للعارف ان يعرف الله تعالى دون ان يملأ حب الله جوانحه ويملك عليه لبه. ولهذا لا غروان نرى ثلثي العرفاء الايرانيين هم من الشعراء. فسنائي والعطار وجلالالدين عرفاء لاشعراء، وسعدي وحافظ شعراء عرفاء.
ومن الطبيعي ان لكل اصطلاحاته الخاصه به، ولا يشذ العرفان عن هذه القاعده، فله اصطلاحاته الخاصة ولغته الخاصة القائمة على الرمزية في اغلب الاحيان. ولاشك ان النزوع نحو الرمزية في التحدث عن مكنونات الفكر والقلب- ولاسيما في موضوع حساس كالعرفان – يمنح الشاعر الحرية في التحدث والانطلاق بشكل اكبر في آفاق الخيال واضفاء المزيد من الصور والملامح الفنية. كما انه اسلوب يحتمي به الشاعر من كل ما يمكن ان يفسر على انه رياء ونفاق، فضلاً عن انه يبعده عن المخاطر التي يمكن ان تترتب على الكلام الصريح، لاسيما في تلك العصور التي كان يتهم فيها المرء على كلامه بشتى التهم والتي قد يدفع حياته ضريبه لها.
واذا ما اراد احدنا ان يتحدث عن عارف مثل حافظ، فلابد ان نلقي على انفسنا هذا السؤال: ما هي الخطوات التي خطوناها نحن في وادي السير والسلوك، حتي نتحدث عن عارف كبير مثل حافظ؟
قضية شاقة جدا
انها قضية شاقة جداً ان يتحدث احدنا عن حافظ او مولوي او ابن عربي او ابن الفارض، لان هؤلاء كانوا يعيشون عالما لم نعشه نحن ويسلكون وادياً لم نسلكه ويبصرون اشياء لم نبصرها، لهذا ليس بامكاننا ان نفهم اللغة التي يتحدثون بها وعبارات لا يستوعبها فكرنا القاصر ولا افقنا المحدود. ولهذا قد يلجأ البعض الى رمي هذا بالزندقة وذاك بالتمرد على الشريعة وثالث بمعاقرة الخمر والركون الي لذائذ الحياة، اعتماداً على المصطلحات والمفردات التي يستخدمها هؤلاء في اشعارهم وكتاباتهم، ناسين ان لهؤلاء لغة خاصة لا نفهمها نحن، وان لدينا افقاً فكرياً ونفسياً يضيق عن استيعاب هذه المفردات وفهمها.
وكان حافظ من بين الشعراء الذين تعرضوا لهجوم كاسح من اقلام وألسنة هؤلاء غير المنصفين اوالجاهلين بلغه العرفان، بل وبالحياه العرفانية التي لا يدركها الا اهلها. وراح الكثير من هؤلاء يشككون في عرفانية هذا العارف الكبير من خلال التأشير على المفردات والألفاظ الواردة في شعره والتي يفهمون منها معان اخري لا صلة لها بالعرفان، بل وربما تصب - من وجهه نظرهم- في وديان اللاتدين، والانغماس في الملذات، واتباع الهوي!
وقدم الشهيد مرتضي مطهري ملخصاً بالآراء المطروحه حول حافظ، اعتماداً على اشعاره هي:
اولاً- انه شاعر بتمام معنى الكلمة. فلم يكن لديه اي هدف سوى انتاج الشعر، وصياغة رائعه شعرية عظيمة، ولم يكن مهماً لديه المواد التي تشكل ديوانه.
واذا كان حافظ هكذا حقاً، فلا يمكن على هذا الاساس استنباط شخصيته من الديوان، فهو ليس اكثر من فنان اوشاعر غير ملتزم يريد الشعر من اجل الشعر، او الفن من اجل الفن.
وهذه الفريضة مرفوضة اساساً، لان اشعار حافظ لم تكن اشعاراً ميتة ولا مصطنعة، انما هي امواج صادرة من روح نبيلة شفافة، ومعبرة تعبيراً حقيقياً عن تفاعلات الروح ولواعج النفس. وليس بامكان اي كلام مصطنع ان تكون لديه هذه القابلية من القوة والعمق والتأثير بحيث ينفذ الي القلوب بكل بساطة ويحلق بالنفوس في آفاق رحبه بعيدة عن هذا العالم المادي الضيق.
فالشاعر غير المتفاعل مع شعره، والفنان غير المندمج مع فنه، ليس بامكان اي منهما أن يخلق مثل هذا الاثر العظيم الخالد والشاعر مهما كان بليغاً او فصيحاً ليس بامكانه ان يبدع او يؤثر على النفوس ويهز الضمائر ويخلد خلود الحياة، اذا لم يكن كلامه صادراً من القلب ومتفاعلاً مع الروح.
ثانياً- والفرضية الاخري فرضيه عجيبه تقول ان حافظ قد انشد هذه الاشعار بتأثير حالات وظروف مختلفة مر بها، وهذا التردد والتذبدب الذي يلاحظ في شعره ناجم عن تذبذبه الروحي.
ويعتقد ادوارد براون في «تاريخ الادب الايراني» ان كافه الايرانيين على هذا النمط، وان حافظ عند حديثه عن الخمر في شعره يريد الخمر فحسب، وعند تحدثه عن العرفان يريد العرفان لا غير!؟
غير ان عدم فهم اصحاب هذا الراي للرموز الشعرية العرفانية التي سبقت الاشاره اليها، يكمن في الدرجه الاولي خلف رأيهم هذا، سيما وان اغلب هذه الآراء صادره عن مستشرقين لا يعرفون الشخصيات المسلمة. اذا لم نقل انهم يتعمدون التشويه. فكيف يمكن للمرء المسلم ان يعاقر الخمر ولا يتردد عن اشباع شهواته ونزواته في نفس الوقت الذي يقبل فيه على الله ويسعي لنيل رضاه والوصول اليه محتملاً كافه المشاق على طريق ذلك الوصول؟!
وهل يمكن ان ينسجم تهذيب النفس وتربية الروح وترويضها مع اطلاق العنان للشهوات والرغبات والاهواء؟
ثالثاً- هناك من يقول ان حافظا قد قال هذه القصائد المتباينة في فترات مختلفة من حياته! فشعر الشراب والانس يعود الي مرحله الشباب، وشعر التقوى والفناء في الله يعود لمرحله الشيخوخة!
وطبقاً لهذه الفرضية، يكون حافظ شخصاً نزوياً منغمساً في الملذات، شارباً للخمر في اوان شبابه، ثم انه اناب في شيخوخته مثل العرفاء الآخرين الذين انابوا في حياتهم كفضيل بن عياض وابراهيم الادهم وبشر الحافي.
وهذا الرأي مرفوض ايضاً، لاننا طالما نجد في القصيدة الواحدة حالتي الشباب والشيخوخة التي اشار اليها اصحاب الرأي.
رابعاً- هناك فريق آخر يرى – وربما تكون رؤيته هذه عن سوء نية –ان على ان نذعن مع كل هذه الاشارات الواضحة والتصريحات البينه عن الخمر والانس والطرب والملذات، ان حافظ كان كذلك حقاً. واما ما يقال عن عرفانيته، فهو ليس الا من تأويل المهتمين به والذين لا يريدون له ان يظهر بغير هذا المظهر!
وهذا راي لا تقوم له قائمة امام اشعار حافظ العرفانية الصريحة وسلوكه الملتزم الذي يشهد له به الآخرون. واذا كان علىنا ان نرفض الصريح من شعره العرفاني الذي يحفل به ديوانه، كان الاولى بنا ان نرفض ايضاً اللاصريح من شعره العرفاني، ونريد به ذلك الشعر الذي يفسره الآخرون على انه شعر منحرف.
خامساً- والرأي الآخر- وهوالرأي الاقوى والذي يقف اكثر الباحثين والمهتمين بحافظ الي جانبه –يري ان شعر حافظ شعر عرفاني من اوله الي آخره، وليس فيه ما يخرج من اطار العرفان حتي ذلك الشعر ذي الظاهر اللاعرفان. وما يبدو من بعض شعره معارضاً للشريعة، انما هو مجموعة من الاصطلاحات التي تعارف عليها العرفاء، ولم ينفرد بها حافظ عنهم. فهم يريدون بالخمر والزلف والخال والخط والحانة، والرقص، وغيرها معان اخرى غير المعاني المتداولة عند عامة الناس.
فليس هناك شك في ان فن حافظ هو السلوك والعرفان، ومن البديهي ان كل فن في مساره التكاملي ارضية لولادة اصطلاحات خاصة به. ومقدار وعدد ونوع الاصطلاحات ذو علاقة مباشرة ولاشك بمستوى تكامل كل فن، كما ان وجود تلك الاصطلاحات بمثابة الاعلان عن حياة ذلك الفن.
وعلى هذا الاساس، نجد اللغة التي يتحدث بها حافظ هي الاخرى لغة رمزية، اي لغة حافلة بالايماء والاشارة ومكتظة بالكناية والاستعارة.
ملك القراء
ويفهم من لقب «ملك القراء، الذي اضفاه عليه كاتب ديوانه، انه كان من مشاهير قراء عصره، واشتهر بهذه الصفة في زمانه.
وكانت باقي جوانب شخصيته تغلب في عصره على شخصيته كشاعر، وهذا ما يؤكد انه لم يكن يمتهن الشعر كما حاول البعض ان يصور ذلك، فلو امتهن الشعر لعرف كشاعر في عصره ولهذا السبب لم يكن شاعراً مكثاراً وانه كان يقول قصيدة في كل شهر تقريباً. ورغم هذا فقد اكتسب شعره شهرة عجيبة في عصره، فلم يخرج من بوابات شيراز فحسب، بل خرج من بوابات ايران بأسرها.
وسعى حافظ لقطع الطريق العرفاني دون استاذ في بداية الامر، لكنه شاهد بعد فترة عجزه عن تحقيق التكامل بدون دليل ولهذا كان يقول:
لا تنطلق الى حارة الحب بدون دليل فقد انطلقت لوحدي فلم افلح
ولقب «لسان الغيب» الذي اضفي عليه، لم يكن من الالقاب المتأخرة، وانما من الالقاب التي اطلقت عليه في عصره، وهذا شاهد آخر على انه كان يعرف كرجل ذي تقوى وعرفان وعلى اتصال بالله تعالى في اوساط مجتمعه.
الحب الالهي
الحب هو محور العرفان والأدب بشكل عام، وهو اللغة الوحيدة التي يتحدث بها عرفاء الاسلام، بل وكافة المدارس العرفانية. ولهذا ليس غريباً ايضاً ان يكون «الحب» اهم رسالة يوجهها ديوان حافظ الي القراء.
و«الحب» في الادب الفارسي المنظوم له مظهران بارزان: الاول «الحب الانساني» الذي نلمحه في مثنويات رودكي وعنصري ونظامي، والثاني «الحب الالهي» والذي ظهر لأول مرة في مثنويات سنائي والعطار وبلغ ذروته في مثنويات جلال الدين الرومي «مولوي».
والحب الالهي –او العرفاني- ذو هدفان عادة: الاول هو التخلق باخلاق يحبها الله وتهذيب النفس وايصالها الي مرحلة الكمال، والثاني هوالفناء في حب الله.
والحب الالهي في الواقع من اعظم الينابيع والكنوز المعنوية التي تغذي شعر حافظ، حيث نجد ملامح التحبب الى الحبيب الابدي والازلي واضحة عليه. والقرآن الكريم يشكل المصدر الاصلي لذلك الحب الذي كان يتدفق من قلبه ووجدانه وينهمر على شكل كلمات ومشاعر وعواطف مغلفه بالرموز والاستعارات والكنايات.
ويعتمد حافظ مثل اغلب العرفاء في حبه لله على ثلاث آيات بشكل خاص وهي:
«يا ايها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه»8.
«قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفرلكم ذنوبكم» 9.
«والذين آمنوا اشد حبا لله» 10.
ولهذا نجد حافظ يهتف قائلاً:
ماذا لوسقط ظل المعشوق على العاشق فنحن بحاجة اليه، وهومشتاق الينا
ويعتقد ان حافظ يشير في هذا البيت الي الحديث القدسي القائل: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت ان اعرف، فخلقت الخلق لكي أعرف».
وللغزالي تعليق على هذا الحديث ايضاً يقول: طال شوق الابرار الي لقاء الله، وان الله الي لقائهم لأشد شوقاً11.
المصادر:
1 - راجع كتاب «تماشاگه راز» «مشهد الاسرار» شهيد مرتضي مطهري، ص 63-89.
2 - المصدر السابق، ص 59-80.
3 - فرهنگ «معجم» اشعار حافظ، رجائي بخارائي، ص 88.
4 - حافظ، بهاءالدين خرمشاهي، ص 171.
5 - مكتب حافظ «مدرسه حافظ»، ص 399-400.
6 - عشق، كدام عشق «الحب، اي حب»، ص 179-180.
7 - ماجراي پايان ناپذير حافظ «قصة حافظ التي لا تنتهي» ص 82-83.
8 - المائدة/ الآيه54.
9 - آل عمران/ الآيه 31.
10 - البقره/ الآيه 165.
11 - عن كتاب حافظ، المؤلف: خرمشاهي، ص 199.