ضمن الموسم الثقافي الـ 18 لدار الآثار الإسلامية، حاضر في مركز الميدان الثقافي، الدكتور شربل داغر الأستاذ في جامعة البلمند- اللبنانية عن «عين القصيدة.. قراءة جمالية في شعر ابن الرومي». وقدم المحاضر وأدار الحوار الدكتور فيصل الكندري رئيس قسم التاريخ في جامعة الكويت.
بداية قال د. داغر: طلبت التوقف عند ابن الرومي «221-283 هـ»، «836-896 م»، لاتساع مدونته الشعرية وتنوعها، ولخصائص فنية متعددة بانت في شعره، وتوافق المحاضرة نفسها. فديوان ابن الرومي يعد من أكبر الدواوين العربية، إن لم يكن أكبرها على الإطلاق، بدليل أن مجموعة من الدارسين المعاصرين تعاونوا واشتركوا في شرح ديوانه ذي المجلدات السبعة «دار الجيل، بيروت، 1998». ولكن أي جديد يمكن قوله في شعر ابن الرومي؟
لقد قيل الكثير في ابن الرومي، وعملوا على ربطٍ تلقائي بين قصائده ووقائع حياته، خالصين إلى رسم نفسي تبسيطي لشخصه، مما جعله «غريباً» أو «طريفاً» في أحسن الأحوال. وما كان جديراً بالبحث، أي إبراز اختلافه عن غيره، في شعره كما في سلوكاته، تحول إلى تناول غرائبي له، ما جعله خارج النموذج واقعاً: هكذا تحدثوا، من حيث لا يدرون، عن النظام المقر، عن الهوية «السوية» للشاعر، لا عن ابن الرومي بأي حال.
وعن حياة ابن الرومي قال المحاضر:
حفلت حياة ابن الرومي بالمآسي والنكبات، واتسمت سلوكياته ومواقفه بمقادير واسعة من التشكي، كما من النفور، ما يصح كثيراً في قول المرزباني: «قلت فائدته من قول الشعر، وتحاماه الرؤساء». فقد الشاعر عائلته تباعاً «من أبيه إلى أمه بلوغاً إلى أخيه الأكبر وخالته، ثم إلى زوجته وأولاده الثلاثة»، مثلما فقد ممتلكاته بين حريق وجراد وخلافهما، ما جعل المدح ينقلب في أحوال إلى هجاء، أو إلى عتاب:
إلا أن هذه الأخبار والتفاسير التي اتصلتْ بها - سواء أصحت أم أخطأت – لم تصرف عنايتها إلى القصيدة نفسها، إلى أبنيتها، مكتفية بشروحات حولت الصورة في شعره إلى طرفة، أو إلى إجادة في الوصف ليس إلا. طلبت، إذاً، في درس ابن الرومي وجهة أخرى، ونظرت إلى شعره نظرات مختلفة، بين تاريخية وجمالية. وما يمكنني قوله، في تمهيد هذه المحاضرة، هو أن حاصلها سيكشف عن جدواها وفائدتها في الدرس. ولقد وجدت إمكانية الاستفادة من هذه المدونة الشعرية في ثلاث مسائل:
- الإخبار عن الفن،
- احتفاء القصيدة بما تراه العين،
- تبادلات جمالية بين القصيدة وغيرها من الفنون.
ثم قدم المحاضر شرحا وافيا لعلاقة الشاعر العباسي ابن الرومي بالفنون الإسلامية قائلا:
ما يعنيني التوقف عنده، بداية، في درس الديوان، هو أنه يشكل مدونة واسعة تساعد في التعرف على بصرية الفن في العصر العباسي، ولا سيما بصرية القصيدة، ما جعلني أتحدث عن: «عين القصيدة». فكما درستُ، في السابق، «كتاب العين»، أطلب في هذه المحاضرة التعامل مع ديوان ابن الرومي بوصفه حامل مادة إخبارية بدوره؛ وهو ما يحتاجه الدرس، في جميع الأحوال، طالما أن مدونة الإخبار عن الفن الإسلامي في المصادر العربية محدودة ومتناثرة. غير قصيدة في ديوان ابن الرومي تتحدث عما يمكن تسميته بأنواع الفن، ما يتعين في عدد منها مثل: الخط، والتمثال، والدمية، والغناء، والتزويق، والوشي، والزينة، والبسط، والعمائر، والرياض وغيرها. هذا يستجمع ويدل عل أنواع هذا الفن كما انتهينا إلى التعريف بها في القرنين الأخيرين في المجموعات الخاصة والمتاحف المختلفة. وابن الرومي لا يذكرها ذكراً وحسب، وإنما يتناول أوجهاً مختلفة منها، بما يدل عليها، وعلى إنتاجاتها، وممارسيها، وطرق صنعها، وما يخصها من ألفاظ اصطلاحية. وعن التبادلات الجمالية قال د. داغر:
ما يستوقف في شعر ابن الرومي يتعدى هذا كله ليشمل مواطن الحسن في القصيدة، وكيف أن الحسن «أو الجمال» يتبادل علاقات تقوم على تفاعلات بين القصيدة وغيرها من الفنون، ما يعكس صورة أوفى عن الفنون، وعن مذاهب الحسن فيها. وجدتُ في شعره تعبيرات شديدة الحسية، إذ يحيل في أكثر من بيت، في أكثر من قصيدة، على الحواس كلها، أو يمعن في تذوق كل حاسة لمباهجها. ما يستثير مشاعر الفرح كما الحزن، العتاب أو الهجر، أو التذوق التلذذي بالمتع المختلفة. كما يحيل أيضاً على تعالقات أو تشاكلات بين فنون مختلفة، ما هو دال في حد ذاته على الذائقة الفنية والجمالية: بين الخط والزينة الشخصية، بين الصورة الدينية المسيحية والتمثال، بين وشي الثياب والخط وغيرها الكثير، وهو ما يحتاج إلى شيء من العرض، قبل درسه. فإن طلب الشاعر حديثاً في العتاب شبَّهَه بما يفعله الخط فوق صفحة الماء:
«كأنني كلما أصبحتُ أعتبُه أخط حرفاً على صفحٍ من الماءِ».
كما يقوم باستعمال ألفاظ: «الشاهد» و»الغائب» السارية في متن الفقه والتأويل للحديث عن القلم:
«له شاهدٌ، إن تأملتَه ظهرتَ
على سره الغائب».
وإن أراد الشاعر الحديثَ عن كلام ممدوحه، وجد فيه ما يجده في نظام الموسيقى القائم على النسب، كما نجد ذلك عند الفارابي وغيره:
«يَزينها بإشاراتٍ ملحنةٍ كأنها نغمُ التأليف ذي النسب».
وختم المحاضر بالقول:
لا يخفى عن ذهن المتابع كوني أنتسب إلى النظرة الأولى، «المتوسعة»، التي رافقت نظراتي في الفن الإسلامي وغيره من الصناعات والممارسات. كما لا يغيب عنه كوني وجدت في القرآن والترف ركنين مكونَين لهذه التجارب المختلفة، مثلما أدرس وأشدد في أكثر من كتاب ودراسة ومحاضرة. وتندرج محاضرتي هذه في المنظور نفسه، متوقفاً هذه المرة عند شاعر، ما يقع حكماً في أي مقاربة جمالية. يقول ابن الرومي:
«همومي مُحَدِّثاتي، وبستانيَ ثماره الخروبُ».