
مرت الموسيقى العربية بمراحل متعددة منذ نشأتها إذ شهد التراث الموسيقي العربي تطورا عبر الزمن نتيجة التأثر بالثقافات المجاورة والتمازج بين الحضارات.
واهتم الموسيقيون العرب الأوائل اهتماما كاملا بالموسيقى وأرسوا القواعد والأصول لها حتى حققوا تقدما في صناعة الآلات الموسيقية وإبداعا في إتقان السلالم الموسيقية.
وبلغ الفن الموسيقي العربي مجده مطلع القرن ال20 حين استطاع الموسيقيون العرب تطويع الآلات الموسيقية الغربية ودمجها في الألحان بتراكيب وإيقاعات متنوعة والحفاظ على الهوية الموسيقية العربية وجوهرها الطربي الأصيل.
وفي هذا الصدد قال أحد الموسيقيين العرب الذين قدموا الغناء العربي الكلاسيكي ضمن إطار «فريد» عبر ادخال موسيقى الجاز الغربية في أعمال العلم الموسيقي الراحل محمد عبدالوهاب وهو عميد كلية الفنون والتصميم في الجامعة الأردنية الدكتور أيمن تيسير لـ (كونا) ان «مرونة واتساع سلالم الموسيقى العربية ومقاماتها منحتها ميزة تطويع مختلف الآلات الموسيقية الغربية لعزف ألحانها وتراكيب إيقاعاتها».
وأكد استقلالية «هوية» الموسيقى العربية وانفرادها بشخصية خاصة بها رغم مراحل التطور التي مرت بها.
واعتبر تيسير ان ادخال الآلات الغربية واستخدامها «لا يدل على عجز في ايجاد شخصية مستقلة للموسيقى العربية» موضحا ان الموسيقيين العرب استغلوا نغمة «الربع التون» التي تتميز بها الموسيقى العربية والتي تعرف على أنها المسافة بين درجة السلم الموسيقي والدرجة التي تليها في المقامات الشرقية.
وأشار إلى أن هذا الاستغلال نتج عنه تطويع الكثير من الآلات الغربية مثل (الكمانجا) و(التشيلو) و(الساكسفون) في الموسيقى العربية «بكفاءة عالية» فيما اتسعت الموسيقى العربية لإيقاعات أوروبية مركبة مثل (الفالس) ولاتينية مثل (السالسا) و(التانغو).
وعن الحقبة التاريخية الأهم التي شهدت إدخال الآلات الغربية في الموسيقى العربية قال تيسير ان أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي كانت فترة بروز استخدام الآلات الغربية في الأغاني والألحان العربية لتصبح فيما بعد عناصر رئيسية في الموسيقى ولدى الفرق العربية.
وأوضح ان «آلة (الساكسفون) استخدمت في أعمال المطربة الراحلة أم كلثوم على يد العازف الراحل سمير سرور ثم في أعمال المطرب الراحل عبدالحليم حافظ كما اشتهر الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب بأنه أول من بادر بإدخال آلات جديدة في أعماله منها (الأورغ) فيما اشتهر كل من الفنانين عازف الغيتار الراحل عمر خورشيد بعزفه على (الغيتار) والملحن صلاح الشرنوبي على (الأكورديون)».
وذكر أن آلات النفخ الغربية بشكل عام دخلت كذلك في الموسيقى العربية المعاصرة لافتا إلى أن آلة ال(كلارينيت) على سبيل المثال لا تكاد تخلو أي أغنية عربية من أنغامها بعد أن استطاع الموسيقيون العرب تطويعها ودمجها في الألحان العربية.
وبين تيسير أهمية المحافظة على هوية الموسيقى العربية عند استخدام الآلات الغربية في العزف العربي مشيرا الى تجربته الشخصية التي قدمها مع فرقة موسيقية بعنوان (جاز عبدالوهاب) التي حافظ من خلالها على الجوهر العربي لأعمال الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب مضيفا لها خلفية موسيقية فيها روح من آلة الجاز الأمريكية.
ورجح سبب تأثر الموسيقى العربية بالآلات الموسيقية الغربية لتنضم الى آلات (التخت الشرقي) العود والناي والقانون والإيقاعات الى بناء أول دار للأوبرا في مصر بعهد الخديوي إسماعيل عام 1869 حينما شهدت تلك الفترة توافد الفرق الأوبرالية الايطالية إلى المنطقة لتبدأ من بعدها مرحلة تطويع الآلات الغربية في الموسيقى العربية.
وعلى صعيد متصل استعرض تيسير النشأة التاريخية للموسيقى العربية قبل مرحلة «النهضة» وقبل التأثر بالآلات الغربية قائلا ان الأداء الغنائي المقترن بنظم الشعر العربي وإلقائه «هو الأساس الذي عرفت به المنطقة العربية ذات الطابع الصحراوي البدوي الموسيقى بالمفهوم الحالي».
وقال إن عصر الجاهلية شهد أجواء تنافسية لنظم الأشعار وإلقاء القصائد بين الشعراء ضمن قوالب بدائية ملحنة أقرب إلى الغناء كانت تؤدى تارة في الأسواق وتارة عند الوجهاء وزعماء القبائل فيما يعرف بليالي «السمر والأنس».
وأضاف أنه مع دخول الإسلام المنطقة وتحريم ما كان مقترنا بالعصر الجاهلي فإن ما يتفق مع الدين الإسلامي «تحولت مظاهر الغناء والموسيقى إلى مظاهر مرتبطة بالدين كالأذان وتجويد القرآن والموشحات الدينية الاستقبال».
وأوضح انه «مع استقرار الدولة الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان وتوسعها نتيجة الفتوحات بدأت الموسيقى تعود إلى مظاهر الحياة لاسيما مع استقبال الموسيقيين الفرس الذين أتوا ومعهم الحانهم ومقاماتهم وآلاتهم لتتمازج الثقافتان الموسيقيتان الفارسية والعربية».
واشار الى ان الفن عموما والموسيقى بصورة أخص شهدا تطورا في عهد الدولة الأموية بعد أن أعطى الخلفاء الأمويون الفنان والموسيقي قيمته المرموقة في المجتمع قبل أن تشهد الموسيقى العربية «عصرها الذهبي» في عهد الدولة العباسية عندما حظي الفنان بمكانة اجتماعية واقتصادية مهمة في الأوساط.
وقال تيسير ان العصر العباسي شهد انفتاحا كبيرا على الثقافات المجاورة والغربية ونجم عن ذلك تأليف الكتب والمخطوطات وترجمة أمهات الكتب لحضارات قديمة في مختلف المجالات ومنها الموسيقى والفن والأدب حتى برزت أسماء لامعة كإبراهيم وإسحق الموصلي وزرياب الذين يعدون أهم الموسيقيين والمغنين المشهورين في العصر العباسي.
وذكر أنه مع انتهاء هذه الحقبة وبداية عصر الدولة العثمانية «لم يسجل للموسيقى العربية تطور ملحوظ» حتى نهايات عهد الدولة العثمانية أي منتصف القرن ال19 عندما بدأت مرحلة «التمازج» بين الموسيقى العربية والتركية وشهدت انتقال العازفين إلى آستانا (إسطنبول حاليا) للتعلم على الآلات التركية ومن ثم جلبها إلى حلب والقاهرة أهم عاصمتين للفن في المنطقة آنذاك.
وأوضح انه «بدأت خلال هذه الفترة محاولات لتشكيل هوية محددة للموسيقى العربية حتى انتهى عهد الدولة العثمانية لتبدأ الموسيقى العربية باتخاذ شخصية مستقلة ذات قوالب واضحة وينطلق معها العصر الجديد للموسيقى العربية بمفهومها الحالي على يد الأعلام أمثال سيد درويش وسلامة حجازي ومحمد عبدالوهاب ومحمد الموجي وبليغ حمدي وغيرهم».
وعن مدى تأثر الموسيقى الغربية بالآلات العربية أشار تيسير إلى شواهد كثيرة في أوروبا والولايات المتحدة حيث توجد فرق متخصصة بالغناء العربي والموسيقى العربية كفرقة (الفارابي) الفرنسية وأوركسترا (ميتزو) علاوة على وجود معاهد وكليات تدرس هذا الفن العربي وفق أصول وقواعد صحيحة ثابتة «لا نستخدمها نحن كعرب».