
أصدرت دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع ديواناً شعرياً جديداً للشاعرة الفلسطينية الدكتورة آلاء القطراوي بعنوان: «خيمة في السماء»، وهو عمل شعري يقع في 166 صفحة من القطع المتوسط، ويضم عدداً من القصائد تجمع بين التأمل العميق والتجربة الوجودية والوجدانية، على خلفية المشهد الفلسطيني بكل ما فيه من فقد وتجلٍّ وصبر.
الديوان يأتي في سياق تجربة شعرية مميزة، ويمثل محطة أخرى في مسيرة القطراوي الأدبية، التي عُرفت بشعرها ذي الطابع الإنساني والوطني، إذ تجمع في قصائدها بين الحس الإنساني الرقيق وقضايا الأرض والهوية والمنفى، ضمن رؤية فنية حديثة تلامس وجدان القارئ.
يذكر ان الشاعرة القطراوي محاصرة حالياً في غزة، وقد فقدت أبناءها الاربعة الذين دفنوا تحت الانقاض أحياء نتيجة القصف الصهيوني الهمجي، وقد تصدرت صورة الابناء الشهداء غلاف الديوان الذي يُتوقع أن يحظى باهتمام القراء والنقاد، لما يحمله من تجربة شعرية عالية ولغة صافية تلامس قضايا الإنسان الفلسطيني وهمومه اليومية، إذ يشكّل «خيمة في السماء» إضافة مميزة للمشهد الشعري الفلسطيني والعربي، توظف فيه القطراوي الخيمة كمعادل رمزي للغربة واللجوء والحلم المؤجل، في تمازج لغوي بين الواقع والمجاز، والأرض والسماء.
«أما قبلُ: كنت أظنه شعراً حتى رأيت دمي يسيل من كل حرف فيه».. تستهل القطراوي ديوانها بتلك التوطئة التعبيرية لتشير إلى طبيعة الشعر عندها ككتابة نازفة ومشحونة بالتجربة الشخصية والجماعية، وتختمه بقولها: «أما بعد: فليست هنالك جروحٌ مُدْمَلةٌ، ولكن.. هنالك نُدوبٌ نازفةٌ»، وهما عبارتان تتلونان بأسلوبها المجازي القوي، الذي يتداخل فيه الشعر بالدم، في إشارة إلى أن ما يُكتب ليس ترفًا لغويًا، بل حياة تنسكب فوق الورق.
تفتتح القطراوي ديوانها عبر مقطوعة تمهد لجوه العام تبرز فيها ثقتها بالله وسط اختبارات الحياة وتشي بالارتكاز على الإيمان كقوة خلاص:
«حسبي من الله صبرًا أنه شاءا
لو كان شراً سيؤتينا فما شاءَا
حسبي من الله صبرًا أنه ربي
لو كان شرًا فما أَجراه في دربي»
وبلحظة بوح حميمية وكلمات مؤثرة، تُسطِّر إهداء لأطفالها الأربعة الذين قضوا تحت حصار الاحتلال وقصفه:
«إلى عقد اللؤلؤ الذي انفرط من قلبي
إلى حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم
يامن
وكنان
وأوركيدا
وكرمل»
يتوزع الديوان على قصائد تتراوح بين الطول والقِصر، وتتنقل بين موضوعات الهوية والمنفى والذات والأنوثة، بلغة شعرية مشحونة بالصور الحسية والروحية، ففي «ربما تلك كانت يدي» تقول:
أسيرُ على بركةٍ من دمٍ لا تجفُّ
وأوراقِ دفترِ رسمٍ تُشرِّدُهُ الريحُ بين الخيام
أسير على نجمةٍ سقطت مثلَ أزرار معطفِ
سيدةٍ نَزَحَتْ في الظلام
وفي «وشم لجناح محروق»، نقرأ صوت الأنثى وهي تُحاور ابنتها التي وأدها الاحتلال تحت الركام:
انفضي عنك هذا التراب وعودي
لم تزل ضحكتي مطفأة
أشعليها لأنسى
أخبريني إذ لا تريدين أن تحضنيني
كيف
أنسى
وأنسى؟
وككائن حي لا كموضوع، تطل فلسطين الحاضرة كجمرٍ تحت الكلمات في «خيمة في السماء»
تُرى كيف يبدو لكم بحر غزة حين اشتهي
قبلة بينما لم يجد أثرا للشفاه!
وحين تَألمَ شاطئه من دمٍ عالقٍ في جلود الحفاة
وحين بكى من غدوا
صورة مشتهاة
ترى بحرنا مِثلَنا..
ربنا منذ بدءْ الخلق اصطفاه
الصباح: غصتها غصتي لنصف قرن ونيف
وفي تناولها لديوان القطراوي وتقديمها له، ترى الشاعرة العربية الكبيرة د. سعاد الصباح أن الحياة، في جوهرها، ليست إلا سلسلة من الفقدان المتواصل، نُرمّم فيها أرواحنا ببقايا الحنين، وننسج الذاكرة بخيوط حلم لم يكتمل. وأن الحياة علمتها أن الحزن لا يموت، بل يلبس أثواباً مختلفة مع الزمن، وأن كل طفل يُذبح ظلمًا، تذبح إنسانية العالم في نظراته البريئة!
لكن أشعة الأمل تتسلل من بين نبضات القلوب المكسورة، كما تتسلل الحكمة من مفاصل الألم، تقول الصباح: «نولد ونحن نحمل غربتنا.. ونرحل نتلمس الطريق إلى بيوتنا الأولى.. وما بين البداية والنهاية، نبحث عن الإيمان في صوت فتاة تحتضن حلمها، أو في صمت أنفاس، أو في قصيدةٍ كتبتها أمٌّ مفجوعةٌ بابنها فوق الغيم»
لحظة اختناق الهواء
فجعة القطراوي اجترت من مخزون الفقد لدى الصباح، لتتحدث عن لحظةٍ اختنق فيها الهواء بين السماء والأرض في جمعة 22 يونيو 1973، لحظةٍ توقفت فيها الحياة كلها في مقعد طائرة وابتدأ حزن القلب الدائم، حينما كانت تحاول أن تستبقي ولدها مبارك حيّاً بينما ينسحب منه نبضه بالتدريج، أن تستبقي أول من أهداها الأمومة، وأول من علّمها كيف يكون الفقد حين لا يُقال، بل يجري بكل شريان: «اليوم.. حين أنظر إلى أطفال غزة، أشعر بأنني أمٌّ لكلّ من فقد أمّه.. أصرخ من الداخل، لأن كلّ بيت يُقصف، يعيد لي تلك الطائرة التي هبطت اضطراريًّا..
أسمع الأمهات وهنّ يصرخن في الممرات، وأَراهُنّ يسابقن الهواء لإنقاذ أطفالهن، فأعود أنا
أنا في كل مشفى ميداني، في كل حضّانة بلا كهرباء، في كل خيمة تحت المطر
أريد الأوكسجين
تتابع د. سعاد الصباح: «كنتُ أمًّا بلا لغة، لا أطلب شيئًا من العالم سوى الهواء.. ركضتُ إلى طاقم الطائرة، وقلبي في يدي، وقلتُ: ابني يختنق.. أريد الأوكسجين، أرجوكم.. فنظروا إليّ كما ينظر الموتى إلى الأحياء..»
وتسترجع مشاهد تلك اللحظة، فتقول: «لحظات انفصل فيها الزمن عن معناه.. استنجدوا معي بطوارئ طبية لا جدوى منها، وأعطوني أنبوبًا.. أنبوبًا ظننته خلاصًا، فإذا هو خواء.
فتحتُه بيديّ المرتجفتين.. وضعتُه على فم ولدي الصغير.. لم يتنفس.
وضعتُه على أنفي.. فلم أشمّ الحياة.
فهمتُ حينها أنني أنا التي تحتاج الأوكسجين.. ليس لأنني أختنق، بل لأن روحي تُسحب مني
كانوا يناولونني أنابيب الأمل فارغة، وأنا أجرّبها كما تجرّب أمٌّ كل أنواع المعجزات.
واحدًا تلو الآخر.. لا هواء، لا حياة، لا خلاص
طائرة تهبط وأخرى تقصف
وفي مواساة للقطراوي، تربت الصباح على كتفها مصبرة: «في لحظة الهبوط الاضطراري في أثينا، لم تكن الطائرة مجرد طائرة.. كانت كومة ركام تهوي بي من السماء، وكنتُ مثل أمٍّ فلسطينية، أزيح بيديّ المرتجفتين غبارَ الحرب عن وجه مبارك، وأبحث عنه تحت أنقاض القلب لا بين المقاعد.. لم يكن هناك قصفٌ إسرائيلي.. لكن كان هناك موت.
ولم تكن الأرض تتهدم تحتنا بقنابل النابالم والفوسفور.. لكن السماء كانت تنكمش علينا
كنتُ أصرخ باسمه، كما تصرخ الآن أمٌّ غزاوية فوق أطلال بيتها:
مبارك ..!
يا مبارك..!
هل بقيتْ فيكَ أنفاس؟
هل هناك مَن يتنفّس تحت الركام؟!
الأسماء مختلفة، والصراخ واحد، والموت لا يفرّق بين أمٍّ تفقد وليدها في جوف طائرة، وأمٍّ يموت أبناؤها تحت قصف طائرة
كنتُ أناديه وأنا أدرك في أعماقي أنه لم يعُد هنا.. ولكن من يخبر الأم أن ابنها مات؟
لقد كنتُ أشعر بأنني أوّل أمٍّ عربية مات طفلها بين يديها في السماء، فصارت فلسطين كلها مرآتي.. وكلما رأيت أمًّا تُخرِج ابنها من تحت الأنقاض، أسمع ارتداد ألمي: لقد سبقته بروحي.. ولم أقدر على إنقاذه.
«خيمة في السماء» تتويج لمسار لافت
يأتي إصدار «خيمة في السماء» تتويجًا لمسار شعري لافت، خصوصًا بعد فوز آلاء القطراوي أخيرا بـجائزة «سعاد الصباح» للإبداع الشعري الفلسطيني، والتي منحت لها تقديراً لتجربتها المتفردة وصوتها الشعري النابض بالمقاومة والجمال، في آنٍ معاً.
وقد عبّرت الشاعرة عن امتنانها لنيل الجائزة، معتبرة أنها «ليست تتويجًا لمسيرة شخصية فقط، بل احتفاء بصوت المرأة الفلسطينية التي تصر على أن تكون حاضرة في الحرف، كما في الحياة.
والقطراوي شاعرة فلسطينية من غزة، حاصلة على دكتوراه في اللغة العربية تخصص «الأدب والنقد»، تكتب بلغة تحفر في الذاكرة، وتستحضر فيها وجع الأرض وصوت المرأة وروح المقاومة، كما أنها تنتمي إلى جيل الشباب الذين حملوا همّ القضية الفلسطينية إلى العالم عبر الكلمة، وصدر لها عدد من الدواوين، وشاركت في فعاليات ومهرجانات شعرية عدة في الوطن العربي، وحازت تقديراً نقدياً واسعاً لتجربتها الشعرية التي تمتاز بالصدق والعمق واللغة المتجددة.