
كتب د. بركات عوض الهديبان
في هذا الزمن المليء بالفتن. بات الإنسان المسلم في حيرة من أمر دينه ودنياه. لاسيما وهو يجد أن الرؤية قد باتت مضطربة ومشوشة لدى عامة الناس وخاصتهم. تجاه الكثير من القضايا المهمة والحيوية. وبينها ما يضطرب به عالمنا العربي والإسلامي في الوقت الحالي من أحداث وصراعات.
وقد اعتاد المسلمون في مثل هذه الظروف أن يلجأوا إلى أهل العلم. لسؤالهم فيما يعرض لهم من مشكلات وأمور مستجدة. عملا بقول الله تعالى «فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون». وبقوله سبحانه «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ». لكن تنشأ المشكلة حين يكون المقصودون بالسؤال والفتوى بعيدين عن المنهج الصحيح والقويم في إفتاء الناس وتعليمهم وتنويرهم بالحق وسبيله المبين. وحين تصبح الفتوى بالنسبة لهم «سياسة» أكثر من كونها «دينا». وحين يصبح لكل فتوى «ثمن» !
ومن دون أن نورد أسماء بعينها. فقد أصبح المسلمون على بينة تامة ممن يوجه فتاواه في اتجاه معين. ليرضي به جهات معينة. وقد رأوا أمثلة كثيرة لذلك. عبر تلك الفتاوى المتضاربة والمتناقضة حول الأحداث التي تجري في المنطقة حاليا. وأبرزها ما يحدث في مصر وسوريا. فقد رأينا إلى أي مدى وصل التخبط ببعض الدعاة في تعاطيهم مع ما جرى فيهما أخيرا. وكيف أباحوا المظاهرات والمسيرات التي خرجت في مصر احتجاجا على عزل الرئيس الدكتور محمد مرسي. ثم لما رأوا ما أدت إليه تلك الاحتجاجات من صدامات دموية. وما نتج عنها من قتل العشرات وإصابة المئات. بدأوا في التراجع عن فتاواهم وأخذوا ينصحون الناس بالعودة إلى بيوتهم. ولم يحفل هؤلاء الدعاة وهم يصدرون فتاواهم الأولى بما يمكن أن يترتب عليها من كوارث. والثمن الرهيب الذي يمكن أن يدفع جراء تلك الفتاوى.. لم يقرأوا الساحة جيدا. ولم يأخذوا في حسبانهم كل الأبعاد التي كان يتحتم عليهم مراعاتها. فكانت النتيجة كارثية بكل المقاييس. وعندما أدرك هؤلاء الدعاة خطأهم. كان الأوان قد فات.
ولم يختلف الوضع كثيرا إزاء ما يحدث في سوريا. فقد أفتى بعض الدعاة بأن على المسلمين في كل مكان أن «يشدوا الرحال» إلى سوريا من أجل «الجهاد» ضد نظام الحكم هناك. وعلى هدي هذه الفتوى انطلق مئات الشباب من مختلف أرجاء العالم إلى أرض الشام للمشاركة في «الجهاد». وسقط منهم الكثيرون قتلى. في ميدان غريب عليهم. لا يعرفون تفاصيله وطبيعته. وإنما اندفعوا إليه بناء على تلك الفتاوى المتعجلة وغير المدروسة جيدا. فهم مسلمون يقاتلون مسلمين. والخسارة واقعة على الجميع. بل إن الأمر في سوريا وصل إلى حد أن الثوار يقاتلون بعضهم بعضا. فالجيش الحر دخل في صراع مسلح مع مقاتلي القاعدة. أي أن المسألة لم تعد مقصورة على قتال الثوار للنظام. وإنما توسعت لتصبح قتال الثوار للثوار.
لا يختلف الأمر كثيرا عما يجري في العراق أو باكستان وأفغانستان. حيث يؤتى ببعض الشباب الصغار. وتجرى لهم عملية «غسيل دماغ» لإقناعهم بأن الجريمة التي سيرتكبونها. ستأخذ بأيديهم إلى الجنة مباشرة. وهكذا يحشون سيارة أحدهم بالمتفجرات ويرسلونه إلى نقطة تفتيش شرطة أو جيش. أو إلى مسجد للسنة أو حسينية للشيعة. وأحيانا إلى سوق شعبي أو مدرسة أطفال. أو مستشفى. أو حتى مجلس عزاء. لينفجر بسيارته فيهم ويقتل ويصيب العشرات. وأحيانا المئات.. كل ذلك تحت ستار الدين. وباسم الشرع. والدين والشرع براء منه. فالإسلام العظيم جعل حرمة دم المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة الشريفة. وذلك كما جاء في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف أمام الكعبة وقال مخاطبا إياها : «إني لأعلم أن حرمتك عند الله عظيمة. ولكن حرمة دم المسلم عند الله أشد». وقدم القرآن الكريم أشد تحذير يورده تشريع سماوي أو أرضي في تحريم قتل النفس. وذلك في قوله تعالى «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا». وقد بلغ من حكمة وروعة دلالة هذه الآية أنه أصبح يستشهد بها أصحاب الأديان الأخرى من مسيحيي ويهود أوروبا وأمريكا للتدليل على مدى احترام الإسلام للنفس البشرية.
ومن المفارقات اللافتة أن هؤلاء الذين يفتون باستحلال دماء الآخرين. أو يدلون بفتاوى وآراء تفضي في النهاية إلى إراقة الدماء. تجدهم لايتجشمون أي مشقة في تنفيذ فتاواهم. فهم لا يذهبون بأنفسهم إلى ما يعتبرونه «ميادين للجهاد». ولا يرسلون بأي من أبنائهم إلى تلك «الميادين». بل إن بعضهم يصدر فتواه ويمضي على عجل ليقضي إجازة الصيف في لندن أو باريس أو غيرهما من العواصم الأوروبية والأمريكية والآسيوية. غير عابئ بما جرته فتواه من أزمات ومصائب وكوارث على المسلمين وعلى الأمة كلها.
نعلم أننا نعاني منذ فترة فوضى الفتاوى. وإذا كنا قد صبرنا على فتاوى غريبة وصادمة من نوعية «إرضاع الكبير» و «جماع الموتى» و«الزواج بالقاصرات». فلأن تلك الفتاوى – رغم كل ما تشتمل عليه من شذوذ فقهي وفكري. وبعد عن منهج الدين القيم - فإنها في المحصلة لا تتعلق بأرواح الناس ودمائهم. لكن عندما يصل الأمر إلى حد إراقة الدماء وإزهاق الأنفس. فهنا لابد أن تكون لنا وقفة. ولا بد أن ينتفض العلماء الربانيون المخلصون. الذي لا يتلونون ولا يداهنون. ولايخشون في الله لومة لائم. ويتحرون وجه الحق في كل ما يقولون أو يفعلون.. لابد أن ينتفض هؤلاء العلماء ليوقفوا المتاجرين بالدين عند حدودهم. وليحولوا بينهم وبين إراقة المزيد من الدماء بفتاواهم وآرائهم الهوجاء. وليضربوا على أيديهم ويمنعوهم من إثارة الفتن والقلاقل في بلاد المسلمين. وترويع الآمنين فيها بأعمال العنف والإرهاب. وتقسيم تلك الدول وتمزيق وحدتها. وليقولوا لهم ما قاله رب العزة جل في علاه: «وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ».