
خاص – «الصباح»: لم تعد العلاقات بين الكويت والمملكة العربية السعودية تقف عند حدود الجوار أو الاشتراك التاريخي، بل تجاوزت ذلك إلى مرحلة متقدمة من التكامل الاستراتيجي المبني على المصالح المشتركة، والرؤى التنموية المتقاربة، ومواجهة التحديات المتشابكة في الإقليم والعالم.
الزيارة الرسمية التي أجراها سمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ أحمد العبد الله إلى مدينة نيوم، ولقاءه بصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، لم تكن زيارة بروتوكولية عابرة، بل كانت منعطفًا مهمًا في مسار العلاقات الثنائية، تؤسس لمرحلة مختلفة عنوانها الأبرز: «شراكة استراتيجية شاملة تتجاوز الاقتصاد إلى بناء نموذج خليجي متكامل.»
علاقة راسخة
دولة الكويت والمملكة العربية السعودية تجمعهما علاقات ضاربة في الجذور، تعززها الروابط الاجتماعية، والدينية، والحدودية، فضلاً عن التاريخ السياسي الطويل من الدعم والتنسيق في القضايا الإقليمية والعربية، خاصة خلال أزمات الخليج منذ السبعينيات وحتى اليوم.
التنسيق الأمني والسياسي بين البلدين ظل دائما من الأعمدة الأساسية في تماسك مجلس التعاون الخليجي، كما ساهم التعاون العسكري خلال حرب تحرير الكويت عام 1991، والدعم المتبادل خلال فترات التوتر الإقليمي، في ترسيخ الثقة بين قيادتي البلدين.
لكن المرحلة الراهنة تحمل أبعادًا مختلفة، حيث تسعى كل من الكويت والسعودية إلى الانتقال من التنسيق التقليدي إلى التعاون التنموي والاستثماري المستدام، خاصة في ظل المتغيرات الجيوسياسية، والتحولات في أسواق الطاقة، والانفتاح الاقتصادي الذي تقوده السعودية من خلال رؤيتها 2030، وتبحث الكويت عن دور فاعل فيه.
رسائل سياسية واقتصادية
خلال الزيارة التي تمت أمس الأول، جرى التأكيد على أهمية تعميق العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، وتوسيع مجالات التعاون المشترك في مختلف القطاعات، خصوصًا في الطاقة، والاستثمار، والمناطق الاقتصادية الخاصة.
وأثنى سمو الشيخ أحمد العبد الله على السياسات الحكيمة التي تنتهجها القيادة السعودية، مؤكدا أن «المملكة تمثل نموذجا رائدا في التنمية والتحول الاقتصادي، والكويت حريصة على أن تكون شريكًا فاعلا في هذه المرحلة.»
اللقاء الذي جرى في «نيوم» لم يكن رمزيا، بل اختير بعناية ليعكس التوجه المشترك نحو المستقبل والتكنولوجيا والاقتصاد الحديث، حيث باتت نيوم أيقونة المشاريع التحولية في المنطقة، ومركز جذب للمستثمرين العالميين والخليجيين على حد سواء.
اكتشافات جديدة
في مايو الماضي، أعلن البلدان عن اكتشاف حقل نفطي جديد في المنطقة المحايدة المشتركة، وهو أول اكتشاف منذ استئناف الإنتاج عام 2020 بعد توقف استمر خمس سنوات، ويعد الحقل الجديد جزءًا من جهود إعادة تأهيل وتوسيع إنتاج المنطقة المحايدة بين البلدين، والتي تضم حقولًا مشتركة تدار بتنسيق كامل.
وتزامن هذا الإعلان مع صفقة استراتيجية أعلنتها شركة «أكوا باور» السعودية، تمثلت في استحواذها على أصول للطاقة والمياه تابعة لشركة «إنجي» الفرنسية في الكويت والبحرين، بقيمة نحو 693 مليون دولار، وتشمل الصفقة مشاريع كبرى في قطاع تحلية المياه والطاقة الكهربائية، مما يعزز من حضور الشركات السعودية في السوق الكويتي، ويدعم التكامل في مشاريع البنى التحتية الحيوية.
التعاون الصناعي والتقني
في سياق موازي، عقدت عدة لقاءات خلال الأشهر الماضية بين مسؤولين من البلدين في مجالات الصناعة والتعدين والتقنيات الحديثة، حيث التقى وزير النفط الكويتي مع نظيره السعودي في أبريل الماضي، لمناقشة فرص التعاون في سلاسل القيمة الصناعية، وتبادل الخبرات في قطاع التعدين والمعادن النادرة، والتقنيات المرتبطة بالطاقة النظيفة.
كما يجري حاليا العمل على مشاريع مشتركة في الصناعات التحويلية والتقنيات الصناعية المتقدمة، ضمن مسعى سعودي لتوطين الصناعة، ورغبة كويتية في تنويع الاقتصاد، ودخول أسواق تصديرية جديدة.
منصة للقطاع الخاص
في إطار تعزيز العلاقات بين القطاعين الخاصين في البلدين، أعلن مؤخرا عن إطلاق المجلس التجاري الكويتي – السعودي المشترك، كمنصة لتبادل الفرص، وتذليل العقبات أمام المشاريع المشتركة، وتشجيع تحالفات بين الشركات الصغيرة والمتوسطة.
المجلس، المتوقع أن يبدأ أعماله الفعلية نهاية العام الجاري، سيعمل بالتنسيق مع غرف التجارة والصناعة، ومجالس الأعمال الخليجية، كما سيواكب الانفتاح السعودي الواسع أمام المستثمرين الخليجيين في القطاعات غير النفطية.
تفاهمات مالية وضريبية
من الناحية التشريعية والتنظيمية، وقع البلدان مؤخرا اتفاقيات تهدف إلى تنسيق السياسات المالية وتحديث الإجراءات الضريبية، بما في ذلك تجنب الازدواج الضريبي، وتيسير تدفقات رؤوس الأموال، وهو ما يعد شرطا أساسيا لجذب المستثمرين الكويتيين للسوق السعودية.
كما يجري العمل على تطوير مشروع رقمي مشترك لتسهيل الإجراءات الجمركية واللوجستية بين البلدين، خاصة في المنافذ البرية، حيث تتركز حركة تجارية ضخمة تستدعي أطرا تنظيمية حديثة وفعالة.
شراكة المصالح الثنائية
ما يميز العلاقة بين الكويت والسعودية في الوقت الراهن هو الوضوح في التوجه والرغبة المتبادلة في البناء طويل الأمد، فليست هناك فقط مشاريع تنموية، بل هناك إرادة سياسية صلبة لجعل العلاقة نموذجا خليجيا ناجحا في التعاون والتنمية المشتركة.
المرحلة القادمة ستشهد بلا شك دخولا مباشرا للجهات الاستثمارية الكويتية في المشاريع السعودية الكبرى، كما ستتيح للمملكة فرصًا استراتيجية للتوسع في السوق الكويتي، خاصة في قطاعات البنية التحتية والمرافق والطاقة المتجددة.
المصير المشترك
زيارة نيوم، وما سبقتها وتبعها من تحركات سياسية واقتصادية، لا تمثل نهاية المطاف بل بداية لمرحلة أكثر نضجا في العلاقات بين الكويت والمملكة، فقد باتت المصالح متداخلة، والتحديات مشتركة، والفرص متقاربة، مما يحتم على البلدين تطوير آليات دائمة للتعاون، وتفعيل الشراكات الاستثمارية، وتعميق التنسيق السياسي والاقتصادي.
ومع تأسيس الشركة الاستثمارية الجديدة، وتفعيل المجلس الاقتصادي المشترك، وفتح آفاق التعاون في الطاقة، والتكنولوجيا، والصناعة، فإن الطريق بات ممهدًا نحو بناء شراكة استراتيجية خليجية ترتكز على الواقع، وتستشرف المستقبل.