العدد 1384 Friday 12, October 2012
جريدة كويتية يومية سياسية شاملة مستقلة
من التهديد إلى الإرهاب.. إلى «الدم»! أوقفوا التعدي على الثوابت الدستورية «الصحة»: افتتاح أكبر مركز لغسيل الكلى خلال أسبوعين «الداخلية»: إغلاق بعض الطرق للوقوف على جاهزية المرور الأزمة السورية تزيد من توتر العلاقات بين تركيا وروسيا «السكنية»: الإسراع في توفير احتياجات غرب عبد الله المبارك «الشؤون»: 945 مستفيداً من خدمات دور الرعاية فتح الدور الأرضي للمسجد الحرام أمام 300 ألف مُصلٍ المبارك: تطوير القطاع النفطي على رأس أولويات القيادة السياسية حسين: الكويت تنتج 3.2 ملايين برميل يومياً خلال عامين النيباري: طرح الفكر المتشدد ضد المرأة يتناقض مع مبادئ الشريعة العبيدي: حريصون على إنشاء وحدات لطب الخصوبة في مستشفيات البلاد المرشد : مركز العمل التطوعي فخور برعاية «سواعد لوطن واعد» المقومات: تعامل «الداخلية» في ندوة «النملان» يستحق الإشادة الرومي: تطوير النظام الانتخابي ضرورة.. ومجلس الأمة المخول بتعديله القبندي: للكويت مسيرة تاريخية في دعم المشاريع الإنسانية بالعالم يوسف الهديبان: بيان «الأغلبية» انقلاب صريح وواضح على الحكم في الكويت العلي: مستوفو شروط القبول في أكاديمية سعد العبدالله سينالون حقوقهم العتيبي: دور كبير لـ«إعداد القادة» في تأهيل الجانب الأهم بشخصية الفرد البرتقالي في ضيافة الملكي.. والعربي يسعى للنصر مصادر لـ : الصبــــاح مصير انتخابات الأندية مرتبط بمرسوم الضرورة البــرتغـــال تـــواجـــه روســيــــا وغيـــــاب محتمـــل لبيبــي «الفيفا» يسعى لتقليص المقاعد في مونديال 2014 الفارغة إلى الحد الأدنى البورصة: انتكاسة... نهاية الأسبوع «الوطني»: 229 مليون دينار أرباح الأشهر التسعة سامي الرشيد: «نفط الكويت» تستهدف إنتاج 4 ملايين برميل في 2020 «الذهب» يستقر بعد 4 جلسات من الهبوط موقعة الجمل تفجر مليونية جديدة في «المحروسة» الحرب السورية - التركية تقرع أجراسها بقوة.. وروسيا تدخل على الخط بوتين يؤجل زيارته المقررة إلى أنقرة.. إلى أجل غير مسمى الجماعات المسلحة تستهدف خط إمداد الجيش السوري إلى حلب الاحتلال يواصل قصف القطاع.. والمستوطنون يعتدون على بورين لم أفكر بهذا الشكل مسبقاً .! أي جرح هذا الذي يعاني منه بطل القصيدة ؟ النبي التهامي مالك بن الريب والشيخ مسلط الرعوجي يجتمعان بالفروسية والشعر والمكان صعب السؤال .. ماهية الألم في رحلة الإبداع صيد الفرائد من شعر فراج بن زايد الشجاعة .. باسمها الحقيقي ..! «ومن الحوار ما قتل  »

مقامات

أي جرح هذا الذي يعاني منه بطل القصيدة ؟

حين يهمي الشعر مطرا يسقي حقول الذوائق و تتمايل الورود طربا على أنغام قافية الغزل العفيف .. نحلق حول عمود الشعر لنستمع إلى مسرحية شعرية يرفع فيها ستار التشويق وعيون المتلقي متلهفة ، تواقة ، متعطشة لتستمتع بحوار قصصي في خشوع شعري وشاعري معشوشب بالروعة ومزين بأكاليل الدهشة .. حوار وسيناريو مسرحية قام بكتابتها وإخراجها الشاعر المبدع د. محمود الحليبي على خشبة الشعر .. !
قصيدة : الجرح القديم .. أم مسرحية الجرح القديم .. إنها تفرش فصولها الحريرية على خشبة الإبداع .. وتشدّنا بروعتها لنتابع أحداثها في صمت هامس يثرثر بالتصفيق .. لكن الأحرى دعونا نطلق عليها : القصة الشعرية .. لما تحمله من مقومات القصة ..
نعرج أولا على القصّ أو السرد كمصطلح ليكون منارة تضيء لنا عوالم هذه القصيدة الوارفة
السرد اصطلاحا هو : “هو قصُّ حادثة واحدة أو أكثر، خيالية أو حقيقية”.
وهذا يعني أن “السَّرْدَ لا يوجد إلاَّ بواسطة الحكاية، كما أنه عرض لتسلسل الأحداث أو الأفعال في النص”.
وهو يعني وجود عنصرين رئيسين في النَّص: الأول: الراوي (السارد)، والثاني: الحدث (الفعل).
لغوي:
وهو “ تَقْدِمَةُ شيء إِلى شيء تأْتي به متَّسقًا بعضُه في أَثر بعض متتابعًا، ويقال: سَرَد الحديث ونحوه، يَسْرُدُه سَرْدًا: إذا تابعه، وفلان يَسْرُد الحديث سردًا: إذا كان جيد السياق له. “
من هذا المنطلق ننطلق محلقين في عوالم الشعرية والسردية في شعر الشاعر د. محمود الحليبي
طائرة القصيدة ستحلق بنا بجناحين : جناج القافية وجناح السرد
القصيدة التي أمامنا قصيدة شعرية من الطراز الرفيع حيث تجمع ما بين القديم والحديث من الشعر وهي جسر ما بين هذا وذاك .. وهذه القصيدة إشكالية تنفتح على مجموعة من الجهات التأويلية لا أقول الأربع بل جهات سباعية الأبعاد .. .. سأحاول أن أستنشق أكسجين عشق القراءات من أنبوبة النقد لأغوص في هذه القصيدة المتلاطمة قوافيها والشاسعة شواطئ معانيها .. ولتكن أول مرحلة من الغوص في يحور هذه القصيدة هي عتبة العنوان .. يتكون العنوان من كلمتين : الجرح و القديم ( الجرح القديم )
الجرح : الشقّ في البدن
القديم : ما مضى على وجوده زمنا طويلا
ومن بوابة العنوان نعرف أن ثمة جرح ستدور أحداث القصيدة على مشارفه ليتعمق المتلقي في ماهية هذا الجرح ..
والقصيدة بلغتها السهلة الممتنعة توحيلنا إلى لغات عدة نلمسها بين سطور قوافيها ورويها وبحرها المنسوجة على نغماته مفردات هذه المعزوفة الشجية .. وموسيقاها التي تهمس بحكايا وليس بحكاية أو قصة واحدة ..
لكن ثمة سؤال يطل من وراء كثبان الحيرة والاستفهام والدهشة .. سؤال يدور حول فلك هذه الوارفة ..عن أي جرح يتحدث الشاعر هنا .. وما هذا الوصف الذي ألبسه إياه “ القديم “ و هل هناك جرح جديد ؟
ومن المجروج .. بطل القصيدة أم بطلتها ؟ !
ذاك ما سنعرفه حين نلج لأعماق هذه القصيدة الرائعة ونبسط حبال التماثل والتوازي والتماهي ما بين عصر قصيدة “ الجرح القديم “ وما بين فترات شعرية تاريخية أخرى.. فترة الشعر عند زعيم الغزليين عمر بن أبي ربيعة ..
نفتح باب شعرية الحليبي لنلج إلى عوالم شعرية العُمري .. وما بين الحليبي والعُمري سنتطرق إلى السرد في الشعر عند الشاعر الدكتور محمود الحليبي .. وأما الشعرية السردية عند الحليبي والعُمري ستكون - إن شاء الله في الجزء الثاني من هذه القراءة ..!

مما أثارته المنظومة النقدية بشيء من الخجل دون نزع اللثام عن حقيقة التمازج والتداخل ما بين الأجناس الأدبية هو التداخل ما بين السرد والشعر في المنظومة الأدبية العربية
وعليه فإن الخوض في هذا الميدان يعد مغامرة كبيرة .. لكن هذه القصيدة التي أمامنا تدفع أشرعة محاولتي - المتواضعة - برياح الدهشة والروعة التي تظللها لأبحر بخطوات لا أقول ثابتة بل مترنحة لكنها تستمدّ القوة من مَصل الشعر والشعرية لقوافي تحلق في سماوات الشاعرية في بحر “ الجرج القديم “

النص الشعري “ الجرح القديم “ أجده كما الفرس الجامحة كلما اقترب منه المتلقي محاولا ترويضه إلا وحمحم وعلا صهيله ليتمرد وينطلق محلقا ثم يستدعيك للتحليق معه في عوالمه .. لتفكّ ألغازه في جزيرة هادئة لا تسمع فيها إلا همسات أمواج القوافي تحكي لك عما في جعبتها وأعماقها لتستخرج لؤلؤا من محارات لغتها وحبكتها ..
لغة القصيدة فاتنة ، ممشوقة ، تتحرك فيها الحروف كما سيمفونية تستمع إليها الأشجار فتعانق أغصانها بعضها البعض وهي تهمس في هدوء : زيدينا عشقا زيدينا .. فتحوم حولها أسراب البلابل لتبني فيها أعشاشا يحميها دفئها من برد الوحشة ..
الوحشة .. مفردة جاءت متناغمة مع مفردات هذه القصيدة .. بل لنقل أنها مفتاح القصيدة الأول ..
والكلمات فيها صارخة ، غاضبة ، قوية ، متمردة ذات حنين جارف .. ( يتجرأ ، وحشتي ، فضت ، بكيت ، عبرتي ، تئن ، سأطرق ، تمنّ ، الجفاف ، الصلف ، يخيم ، يطنّ ، يثور ، خوفي ، أجنّ ، فحسبك ، كفى ، صه ) .. لغة مأساوية والتراكيب مرتبطة بالمعاناة .. إنها لغة حزينة تعكس لنا حجم الزفرات التي تنهش الذات عند بطلة القصيدة وكذلك بطلها .. والشاعر الحليبي يجيد رصّ المفردات لتعطي لنا أبعادا عديدة تزيح الستار عن الدلالات النفسية و العاطفية المليئة بالحزن والأنين لشخصيات القصيدة ..

لَعَلِّي إِذَا رَتَّلَتْ وَحْشَتِي
مَوَاوِيلَها فِضْتَ رُحْمَى وإِنْ

والمواويل كما نعلم هي “ فن شعري غنائي يرتكز على مقطع واحد ويردّد مرارا “ ترتكز هذه الوارفة على مفردة الوحشة التي شعرت وتشعر بها بطلة القصيدة فجاء أنينها وشجنها هامسا تارة وتارة أخرى مليء بضجيج الألم ..

بِيَ مِثْلُ الذي قَدْ دَهَاكِ ؛
وما بين وحشة بطل القصيدة وبطلتها تجري أحداث هذه القصة التي يرويها لنا الشاعر د. محمود الحليبي .. أحداثا تتوالى في فصول عدة ليجمعها بعبقرية فذة في فصل واحد .. فهو يدير أحداث القصة التي يحكيها بقوافيه الرائعة كما مخرج يتعامل مع البطل والبطلة بحرفية متقنة ليُخرج كلّ ما كمن في نفوسهما وكلّ ما يشعران به من ألم وشجن وحيرة .. بل نجد أنه يرصد أدقّ تفاصيل الحركات وانفعالات بطلة القصيدة بإتقان قلّ نظيره .. إنه يجيد التحدث على لسانها .. يتدخل في عالم ونفس وفكر بطلة القصيدة و يعرف متى يرسم شوقها وغضبها وعشقها بألوان قوافيه ومتى يصمت ومتى يحكي عن لوعتها ووحشتها وهذا ليس بغريب عن الشاعر الحليبي فقد فعل هذا أيضا في بعض قصائده .. إذ تحدث على لسان المرأة وتفنّن في وصف مشاعرها ورسم خلجات نفسها وانفعالاتها بقدرة فائقة قلّ من يفعل هذا في ميدان الشعر بل نجد أن من تعرض لهذا من الشعراء قليلون جدا .. الشاعر د. محمود الحليبي عرفناه بهذا اللون من الشعر الغزلي في بعض أشعاره والتي يصف فيها عواطف المرأة وأحاسيسها وهواجسها ورغباتها .. كما في : “ اعترافات امرأة مهزومة “ و “ قل لي أحبكِ “ .. فقد ألفناه شاعرا متمرسا متمكنا من هذه التقنية التي استطاع بها أن يخلق جسرا ما بين المرأة والرجل ( الشاعر ) ليكون الترجمان والمتحدث الرسمي عنها وهذه إحدى رسائل ومهام الشعر والشاعر التي لا يعرف أدائها إلا شاعر مرهف الحس يتقن لغة المشاعر .. !
المشاعر .. نجدها في هذه القصيدة تثرثر كثيرا في شجن .. إنها مشاعر الأنثى حين يغيب عنها حبيبها .. تتحول إلى كائن فقد بوصلة القلب وتاه في غابة من الحزن .. لا تعرف طريقا ولا مخرجا إلا حين يمدّها حبيبها بسراج الوصل والعشق ينير أرجاء روحها .. بطلة القصيدة فقدت بوصلة قلبها وتاهت في بحر من التساؤلات تبحث عن سرّ صمت حبيبها وفي نفس الوقت قلقة عليه حاملة همّ الوجوم الذي يخيّم في مقلتيه ومع تزامن هذا القلق نجدها أيضا غاضبة منه .. وهذا غضب لذيذ فيه من دلال الأنثى الشيء الكثير .. وعلى ذكر الغضب.. لشاعرنا أيضا قصيدة موسومة ب “ غضبى أحبك “ ..

سأسكُنُ صَدْرَكَ بالقُربِ مِنْ
فُؤادٍ تجرّأَ أَلاَّ يَحِنّ !
تخبر بطلة القصة حبيبها أنها ستسكن صدره .. وقد برع الدكتور محمود الحليبي في استخدام حروف معينة في قصيدته أو لنقل قصته الشعرية هذه .. لقد بدأ بحرف “ السين “ وختمها بحرف “ السين “ .. ( سأسكن / مسنّ ) .. ليخبرنا أن بطل القصيدة يجد ويعاني مثل ما تعاني بطلتها
والروي هنا خارج حسابات الحروف مع أنه مهم جدا وقد وفّق الشاعر في اختياره لأن النون من الحروف المتوسطة القوة .. وقد تكرر ثلاثة عشر مرة في القصيدة وهو من الحروف المهموسة كما أغلب الحروف التي وظفها الشاعر ليوصل من خلالها رسالة الشجن والأنين بصورة أقوى وأبلغ للمتلقي والشاعر د. محمود الحليبي كما عهدناه متمكّن من أدواته الشعرية يعرف كيف يختار حروف قصائده بإتقان ولا يترك ذلك للصدفة ..
و “ سأسكن “ كلمة توحي أن ثمة حوارا وكلاما قبلها .. إذ لا يمكن أن يكون هذا أول حديث ما بين بطلة القصيدة وبطلها .. ثمة حوار آخر أخفاه الشاعر ببراعة وجعل بطلة القصيدة تبدأ من وسط الحدث لا من أوله .. وهذا يبرز لنا مدى الوعي الشعري عند الشاعر وقدرته على التأثير على المتلقي لاستدراجه وجعله يشارك في رسم معالم القصيدة .. إنه لا يكتفي بأن يجعل المتلقي قارئا فقط - وهذا لو حدث يكون سلبية في نظري – بل يجعله عنصرا يشارك بفعالية في تحديد معالم ورسالة قصائده ..
وهذا مهم جدا لصيرورة الحركة الأدبية والشعرية .. لا بد أن يكون المتلقي قارئا فعالا وإيجابيا بأن يكون أحد ركائز النص الأدبي فلا يجب أن نغيّبه ونهمّشه كما فعلت بعض النظريات النقدية ولا أن نجعله سيد النص الأدبي كما فعلت أخرى بل نبني جسرا إبستملوجيا ما بين المتلقي والكاتب/ الشاعر لنصل لنصّ أدبي فعال يؤدي رسالته الأدبية والشعرية بامتياز – و الجسر الابستيمولوجي فكرة أتناولها في بحث لو يسّر الله ذلك سيرى النورقريبا بحوله ومنته تعالى - .. ويتوالى الحوار السردي والشعري ليصور لنا بكاميرا القوافي مدى إصرار وإقرار بطلة القصيدة أنها ستسكن بجوار فؤاده ..
“ سأسكن صدرك بالقرب من فؤادك “ إذا تأملنا العبارة نجد أن فيها من دلال الأنثى ما يجعلنا نصفق بحرارة لذكاء الشاعر قبل أن يسدل ستارة النهاية عن قصته الشعرية هذه .. لأنه فعلا برع واستطاع بكل إتقان أن يصف شعور المرأة حين تجمع ما بين العشق والغضب والدلال قي نفس الوقت .. هنا تقرّ البطلة أنها لن تسكن قلبه لأنها غاضبة من صمته .. بل ستسكن في صدره قرب الفؤاد .. تخرج من غرفة الفؤاد لتسكن بالقرب منه لكن تبقى في مسكن الصدر .. لا تبرحه .. كما الزوجة الغاضبة التي تترك غرفتها لتكون في غرفة أخرى لكنها تبقى في الصدر أقصد تبقى في البيت لا تبرحه .. إذ صمت الحبيب هنا تعتبره البطلة قسوة وجفافا فهو لم ولا يريد أن يروي غليلها يخبرها ما به .. وما سرّ لغز الصمت والوجوم الذي يلبّد سماء عشقهما ..
ثم يسترسل الشاعر في سرد أحداث القصة ليقول على لسان البطلة :
لَعَلِّي إِذَا رَتَّلَتْ وَحْشَتِي
مَوَاوِيلَها فِضْتَ رُحْمَى وإِنْ
بكيتُ سمعتَ صدَى عَبرتي
وراحتْ ضُلُوعُكَ حَوْلي تَئِنّ
هنا لم ترتّل البطلة مواويلها بل وحشتها من رتّل .. وهنا أجاد الشاعر رسم ملامح كبرياء المرأة .. لم ينسب ترتيل المواويل لها بل للوحشة .. نلمس من خلال الملامح العاطفية التي رسمها الشاعر لبطلة القصيدة أنها ذات كبرياء رغم شدّة العشق التي تعتريها ..
وحين ترتل الوحشة مواويلها تأمل أن يفيض حبيبها – بطل القصيدة – رحمى وإن بكت سمعها .. أتلاحظون معي أن الضمير في البكاء لبطلة القصيدة وليس للوحشة كما سبق في ترتيل المواويل .. “ بكيتُ / سمعتَ “ براعة مدهشة من الشاعر أن يسرد علينا هذا في تتابع رائع ..حبكة وفنية متميزة .. البكاء هنا بكاء البطلة وليس بكاء الوحشة لأنه يقول بعدها “ سمعتَ “ والبطلة تنسب البكاء لها لأن حبيبها سيسمع بكاءها .. لم تقل أن مواويلها هي التي تبكي بل هي .. وهنا يرسم لنا الدكتور محمود الحليبي شخصية البطلة العاطفية بإتقان قلّ نظيرة ..إن البطلة غيورة تغار حتى من وحشتها وهي مجرد شعور هي من يعانيه .. لا تريد أن يسمع حبيبها من غيرها بكاءً لأنه كما نعرف بكاء الأنثى يؤثر في الرجل .. ترفض أن تنسب ضمير البكاء للوحشة .. وكذلك يشير هذا التتابع في الضمائر إلى وجه آخر من وجوه التقنية الشعرية الرائعة عند الشاعر .. “ بكيتُ سمعتَ “ لا فاصلة ولا فصل ولا حرف عطف ولا شيء .. تتابع مدهش .. بمجرد ما تبكي البطلة حبيبها يسمع بكاءها نقل مباشر من وإلى الروح ..
تقنية مبدعة تفنّن فيها الشاعر بسبر أغوار مشاعر بطلة قصيدته ليقول لنا أن بكاء الروح يصل للروح في نفس اللحظة .. بكاء يتنقل عبر أثير الأرواح في نفس اللحظة لا فاصل هناك ولا حاجز ولا عازل تخترق ذبذباته المسافات بل تخترق الزمان والمكان .. يتوحّد الزمان والمكان ليشكلّ بؤرة اللازمان و اللامكان حين تتوحدد الروح وتمتزج مع الروح
بكيتُ سمعتَ صدى عبرتي
وراحت ضلوعك تئن “
لاحظوا معي مرة أخرى هذا السرد الشعري الفتّان والمتميز .. بكت بطلة القصيدة لكن من اشتعل في صدره الأنين هي أم هو ؟ وأين تردّد الصدى في صدره أم في صدرها ؟!
انطلق البكاء من البطلة سمعه بطل القصيدة في نفس اللحظة وردّد صدره صدى عبرتها وراحت ضلوعه تحيطها ليئن بدلا عنها .. أيّ عشق وأي حنان هذا يا شاعرنا المبدع ..!!

حين بكت بطلة القصيدة سمعها حبيبها و راح يربّت على روح حبيبته وتحيطها ضلوعه في تحنان فيّاض.. فاض حنانه وخوفه عليها من كل جهات الصدر – ضلوعك – فما كان منه إلا أن بدأ يئن كي لا تئنّ حبيبته .. البكاء منها والأنين منه .. هنا نلمس عبق شعر الدكتور محمود الحليبي في تناوله العشق موضوعا في شعره الغزلي العفيف .. عشق الروح للروح كما في قصيدته “ روح “ و كذلك قصيدة “ في حضرة الذبول “ .. وهذا المشهد السردي الشعري باذخ .. مورقة أغصان حروفه حتى لتكاد تكون فصلا ربيعيا سرمديا للحب في زمن خريف المشاعر ..

يتابع الشاعر سرد الأحداث في تناغم رائع إلى أن يصل لنهاية القصيدة فيقول :

كَفَى ! بِيَ مِثْلُ الذي قَدْ دَهَاكِ ؛
فَحَسْبُكِ عُتْبَى . قِفِي ؛ بَلْ صَهٍ ( نْ ) :

هُنالِكَ جُرْحٌ قَدِيمٌ يَنِزُّ
وظُفْرٌ هُنَا مُسْتَفِزٌّ مُسِنّ !!

بعد أن تحدثت البطلة بما تحدثت به في باقي أبيات القصيدة إلى أن قالت :
مَلَلْتُ ، وأرْهَقَنِي الصَّمْتُ .. عَفْوًا ؛
إِذَا رَكَدَ الماءُ دَهْرًا أَسِنْ !!
أجابها بسرعة كي لا تسترسل وتزداد حمى زفراتها ..
كفى .. قفي .. اصمتي .. حنانيك .. رحمة بك وبي .. ليأتي لنا الشاعر المبدع د. محمود الحليبي بقفلة لقصته الشعرية من النوع الثقيل .. دهشة وروعة .. فيقول البطل لحبيبته : كفى .. بي مثل الذي قد دهاك
بطل القصيدة يعاني ويكابد ويتألم مثل ما تتألم وتعاني بطلتها .. هو أيضا يعاني فلا يجب أن تعاتبه .. بسبب صمته - الذي كان يلهبها ويكاد يذهب بعض عقلها - .. يخبرها أن ثمة أمرا فرض عليه هذا
الأمر الذي كان يخفيه عنها لكن عتابها وشكواها جعله يكشف لها عنه .. إنه الجرح القديم
ثمة جرح يعاني منه بطل القصيدة
ونطرح سؤالا في هذا المقام .. أي جرح هذا الذي يعاني منه بطل القصيدة ؟ .. من سياق كلامه نجد أن ثمة جرح قديم ينزّ جرح مازال يفرز دما .. نلاحظ هنا أن الشاعر وضع صفة للجرح فجعله قديما .. لكن المفارقة أن الجراح الجسدية القديمة تندمل مع مرور الوقت لأن الجسم يدافع عن نفسه فيفرز مادة لتندمل هذه الجراح .. فما بال جرح بطل القصيدة لم يندم بعد وما زال ينزّ رغم قِدمه ؟ .. بكل بساطة هو ليس جرحا جسديا بل جرح الروح والنفس والفكر .. جرح لا يراه إلا بطل القصيدة ولا يشعر به سواه .. لكن ثمة من يشعر به كما يشعر به هو.. إنها حبيبته ولهذا كانت الحيرة تنهشها وتشكّ في صمته .. لم يخبرها لأنه خاف عليها من آلام هذا الجرح .. وهنا تتجلى لنا أيضا مدى روعة الشعر الغزلي وحبكة السرد في أشعار د. محمود الحليبي .. لغة المشاعر التي يتحدث بها أبطال قصائده .. تأخذنا بعيدا لعوالم العشق الروحي الذي يسقي الروح قبل الجسد ..
لقد استعمل الشاعر كلمة “ هنالك “ في رده على بطلة القصيدة .. وهنالك اسم إشارة للبعيد .. واستعمل أيضا اسم إشارة أخر “ هنا “ وهو اسم إشارة للقريب

وما بين البعد والقرب تتضح لنا رؤى الشاعر في هذه الوارفة ، الباذخة ، المتفرعة تفرع الشجرة المثمرة ..
“ هنالك جرح قديم ينزّ = وظفر هنا مستفزّ مسنّ
هنالك بعيدا جرح ينزّ .. جرح لم يشفى بعد بل مازال النزف يسيل .. أيّ جرح هذا الذي هو بعيدا هناك ؟
إنه جرح موغل في القدم جرح الماضي الذي ينزّ وظفر الحاضر المستفزّ كما حراب مسنة تنهشهما .. ل “ هنالك “ و “ هنا “ أبعادا ورؤى تأويلية عديدة وهذا أيضا من ميزة شعر الشاعر .. يترك للمتلقي حرية التأويل الذي يراه حسب رؤة كل قارئ ..!

ومن روائع هذه القصة الشعرية كذلك نجد أن الشاعر لم يحدّد الزمان والمكان ولم يضع حيزا مكانيا ولم يذكر زمنا محدّدا بل جعله يتماهى ليشكل منطقة لا محدودة ..بؤرة ترسم لنا حدود الشخصيات في علاقتها بالزمكان .. هذا الزمكان الذي يطل على استحياء من خلف المفردات ليمتدّ من “ القديم “ – الماضي – إلى الحاضر .. ومن الصدر للفؤاد “ سأسكن صدرك “ الزمان كان من لحظة بوح البطلة بشكواها إلى أن ردّ عليها البطل بقوله .. “ كفى ..” ليكفّ الزمكان عن تحديد أرضيته فتتحول القصيدة لرسالة عذبة القوافي تصلح لأي زمان وأي مكان  الزمكان فيها ساحة متنامية الأطراف تظلّلها شجيرات العشق وتنمو فيها ورود الشوق والتمازج والتوحد بين روحين فيتثاءب الزمكان ليتوسّد الحدث السردي تلك الآهات والزفرات التي تنطلق من فؤاد بطلة وبطل القصيدة

فجر عبدالله
 

اضافة تعليق

الاسم

البريد الالكتروني

التعليق