ارتبط القناع بالمسرح الأغريقي، وفي بعض الطقوس الدينية القديمة للامم السابقة، إذ ان معناه في اللغة، غطاء الوجه، فقد استخدمه الأغريق في اعمالهم المسرحية، وذلك عندما يقوم المتحدث بانتحال شخصية أخرى غير شخصيته، ومن ثم يعمل على التحدث من خلالها إلى الجمهور، ووفق هذا العمل فإن القناع يمثّل الرمز الذي لبس الممثل القناع من أجله كقناع الالهة كما هو الحال عند الامم السابقة، بينما من يلبس القناع، فلا دور له في هذا الشأن، أما معناه في الادب، بأن يقوم الشاعر باستعارة شخصية أخرى يتحدث من خلالها عن ذاته، وذلك أن القناع شكل من أشكال الرمز الشعري، وهذا ما جعل بعض النقاد يعتبرون أن القناع استعارة شعرية موسّعة وما يميّز القناع في الشعر أنه يخفض من انفعال الشاعر، ويعمل على كبح مشاعره، ويخفت من صوت النزعة الذاتية المرتفعة في الشعر، وذلك أن القناع الشعري مزيج من البوح والغموض، وتداخل بين الذاتي والموضوعي وأهمّ وظائفه أنه وسييلة بين الشاعر والعالم المحيط من حوله.
إن اول من أوجد تقنية القناع في الادب العربي هو الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، ووصفه بأنه هو الذي يتحدث من خلاله الشاعر عن نفسه، متجردًا من ذاته، معبرًا أن القناع ما يلبسه الشاعر، ويتكلم من خلال شخصه ومثال قصيدة القناع في الشعر النبطي قصيدة «الا السما ...لو يعاف الطير جناحه» للشاعر بدر الحمد حيث اختبأ الشاعر وراء رمز الطير، وعبّر من خلاله عن موقفه الذي كان يمرّ به قبل حصوله على الجنسيّة الكويتية، وحاكم تناقضات هذا العالم المحيط من حوله إذ كان الطير رمزًا شعريًّا وقناعًا لاذَ خلفه الشاعر، وإن كانت نبرة الذاتية غير واضحة باعتبار ان القتاع رمز يتخذه الشاعر فيضفي على صوته نبرة موضوعية شبه محايدة، وتنأى به عن التدفق المباشر للذات وهذا الذي فعله الشاعر كما هو مبيّن في القراءة المقدمة من قبل كاتب هذه السطور عن النص، علمًا بأن من الإمكان ان يكون رمز الطير في قصيدة الشاعر بدر الحمد معادلاً موضوعيًّا أكثر من كونه قناعًا في حال أنه لا يقصد بهذا الرمز نفسه، وإنما يعني به الآخر الخارج عن نطاق ذاته، وما كان دوره في هذه الحالة إلا رصد هذه الحالة، أي أنه معادل موضوعي للانسان «البدون» في الكويت، الانسان المحروم من حقه الطبيعي في الانتماء لوطن، والحصول على هوية وطنية تحدد كينونته الإنسانية في هذا العالم.
من خلال ما سبق قوله، فإن القناع قد يتحول إلى معادل موضوعي، كما هو الحال في نص «الذيب» للشاعر خالد العتيبي الذي يقول في هذه الأبيات:
يا مضْرب الفِرّيْس في السطوة وفي فكّ النِّشاب
يا متعب الساطي، ويا هيف الجبان، ومقتله
أمّا أنت لك في ما مضى غارات، وطعون، وضراب
وفجوج، ورقاب، ومراقيب، وقنيب، ومنْزله
واليوم أشوفك تَبْسط الذرعان وتضمّ التراب
غيّبْت في وقتٍ غدى عاليه من تحت أسفله
وإن قلت أنا رجْل الليالي السود، ما فيه ارتياب
مير البلا إنّ الوقت هذا ما يبي له مرجلة
إن رمز القناع والتعامل مع هذه التقنية قيمة فنية لم تكن مجهولة عند العرب القدماء، غير إنهم لم يعرفوها كما نعرفها الآن، فحال القناع كحال السرقات الشعرية التي أصبحت لدينا ضمن أبواب التناص الشعري، وحال القناع كحال الانزياح الدلالي الذي يعدّ تطورًا عن التشبيه والاستعارة والكناية، ويعتبر نص «الجبل» للشاعر الأندلسي ابن خفاجة من أقدم النصوص العربية للقناع، وأشهر نص عربي حديث للقناع هو نص «الصقر» للشاعر السوري المعاصر أدونيس، وقد سار في هذا الركب العديد من الشعراء العرب المعاصرين.
في عودة إلى الأبيات الشعرية السابقة للشاعر خالد العتيبي، نلاحظ أن المتأمل في مدلول الذئب يجد أن الشاعر قد اتكأ على رمز شعري استقاه من الطبيعة، لكن وفق حيثيات التراث الشعبي لسكان شبه الجزيرة العربية، إذ أن الذئب «الذيب» حيوان مفترس شرس لكن الذاكرة الجمعية للناس في المنطقة تختزل الذئب بمفاهيم تتعلق بالرجولة والشهامة والنجدة والإباء والإقدام وعدم التردد، لهذا يسمون بعض أبنائهم باسم «ذيب»، وهناك العديد من أبناء القبائل ما يرددون بعض الأغاني الشعبية المتعلقة بحياة «الذيب» وما يتحلى به من صفات حميدة، حيث يختصر هذا البيت الشعري القادم من التراث العديد من هذه الخصال:
تخاويت أنا والذيب سرحان
دعيته بأمان الله وجاني
والشاعر خالد العتيبي لم يكن في معزل عن هذا الفهم الشعبي العام، حيث تمازجت لديه في هذا الفهم الأساطير الشعبية في التعامل مع «الذيب» بما يحمل التاريخ الشفوي الشعبي للمنطقة من قيم نبيلة ترتبط بهذا الحيوان الصحراوي، لهذا اختبأ الشاعر وراء هذا الرمز ليحاكم العالم ويتحدث من خلاله للجميع بعيدًا عن صخب الانفعال، مصورًا الموقف الذي يريده من الحياة والناس، وقد اتكأ عليه الشاعر من أجل أن يمارس دور الندية المطلوبة بالنسبة له في التعامل مع العالم المحيط من حوله، وهذه الحالة الحاصلة عند الشاعر العتيبي تعتبر من أهم وظائف القناع الشعري، وهي التعامل النّدي مع الواقع الإنساني المحيط بالشاعر، دون أن تظهر شخصية الفنان الأديب بشكل بارز للعيان، وعليه يمكنه الدخول في علاقات إنسانية مباشرة مع الحياة دون أن يكون الشاعر في مقدمة واجهة الحدث، وقد عكس لنا خالد العتيبي عن طريق هذا التوظيف علاقة الإنسان بالإنسان، وربما بالسياسة والواقع الاجتماعي أو الاقتصادي، وربما يرمي هذا التوظيف إلى كشف زيف الواقع في التعامل مع الإنسان النبيل المتحلي بالصفات الحميدة.
إن تقنية القناع لها ما يعضدها في التراث العربي، والتراث الشعبي من خلال الشعر النبطي، غير أن هذه التقنية وفق هذا الفهم، وهذا التحليل لم يعرفها الأدب العربي إلا في العصر الحديث، ولو افترضنا جدلاً أن خالد العتيبى لم يقصد برمز الذئب «الذيب» به نفسه، يل هو يقصد منه شخصًا آخر غيره؛ آخر لا يمتُّ لخالد بصلة، فاْن هذا الرمز يتحول من كونه رمزًا للقناع إْلى رمز للمعادل الموضوعي، إذ أن الرمزين يكادان أن يكونا متداخلين، وعليه سنعلن هنا بأن القناع هو المختص بالشاعر القائل للنص الشعري أما إذا كان الرمز يتحدث عن المجتمع أو عن إنسان آخر ليس شاعر هذا النص، فإن هذا القناع سيكون معادلآً موضوعيًّا، وهذا الفهم ينسحب على نص الشاعر بدر الحمد، لأن ترك المجال دون تحديد بُعدّ تَخَبُّطًا فى الرؤية، الأمر الذى ينعكس على تصوراتنا للمفاهيم، كما أننا لا نريد أن نكون مُولعين بكل وافد من الآراء أو الرؤى النقدية الأجنبية دون أن تكون لنا هويتنا الثقافية الخاصة بنا، التي تمكننا من تحديد ما نريد من أولويات، خاصه أن الثقافة العربية المعاصرة تعيش أزمة التخبط فى تحديد التعاريف والمصطلحات، وذلك مردّه إلي الوَلَع الشديد بالوافد الآجنبي من المناهج والآراء دون إدراك حقيقي بخصوصية ثقافتنا العربية.
محمد مهاوش الظفيري