تعمل المحسنات البديعية المعنوية على تحسين المعنى مع وضوح الدلالة المرجوة من الكلام ، والخالية من الغموض المفرط المؤدي الى التعقيد ، والمحسنات المعنوية تنقسم الى عدة انواع ، منها:
1 – التورية
التورية وتسمى الايهام ايضا ، وهي أن يطلق الشاعر لفظًا له معنيان ، المعنى الاول قريب ، والمعنى الاخر بعيد ، وهو المراد (1) وشاهد التورية قول الحميدي الثقفي (2):
صبّي الغيم يا سلمى لناسٍ غلابه
من عطشْهم على الما يحلبون السحاب
ففي هذا البيت أورد الشاعر كلمة “ سلمى “ وهذه الكلمة تدل على اسم امرأة وكأنه يخاطبها في هذا البيت ، غير أنه يعني بهذه الكلمة معنى آخر مغاير لهذا الفهم ، وهو معنى الدنيا أو الحياة
2 – الطباق
الطباق او التضاد او المطابقة ، هو جمع بين المتضادين ، أي أن يجمع الشاعر بين معنيين متقابلين في الجملة , ويكون ذلك إما باسمين او فعلين (1) ومثال التضاد بين الاسمين قول حاكم مشعل المعلا (2):
يوم أصبحت ما بين مدحي وذمّي
وش ينفع المذموم لاخيّم الصمت
ومثال التضاد بين الفعلين ، قول فرج صباح (3):
إما تجي , وتكون بالقلب ما كنت
وإلا تبيع وسود الأيام تشري
فالمثال الأول احتوى على اسمين متضادين , وهما” مدحي وذمّي” بينما ضم المثال الثاني فعلين متضادين هما “ تبيع - تشري” غير ان الطباق يشمل على ثلاثة انواع ، تختلف هذه الانواع فيما بينها بشأن الموقف من التضاد ، وهذه الانواع هي :
أ - طباق الإيجاب
هذا النوع من الطباق هو ما صُرح فيها باظهار الضدين ، أو هو ما لم يختلف فيه الضدان إيجابيا وسلبا (1) ومثال هذا النوع قول حمد خليفة بوشهاب(2):
مرتوي قلبك وانا الظامي
وإن عطش قلبي وش يْهمك
حيث حصل في هذا البيت طباق ما بين “ مرتوي – الظامي “ فكل كلمة تناقض اختها الاخرى في المعنى .
ب - طباق السلب
وهو ما لم يصرح فيها باظهار الضدين ، أو هو ما اختلف فيها الضدان إيجابًا أو سلبًا (1) ومثال هذا النوع من المطابقة قول الأمير خالد الفيصل(2):
لو نسيت العمر ما أنسى دمعتك
صرخةٍ ذابت من عيونك دموع
فقد عمل الشاعر على إيجاد طباق بين الفعل المثبت “ نسيت “ والفعل المنفي “ ما أنسى” حيث صارت كل كلمة مناقضة لأختها.
ج- طباق إيهام التضاد
وهو أن يوهم لفظ الضد أنه ضد مع أنه ليس بضد (1) أي أن يتراءى للقارئ أو السامع أن في هذا الكلام تضاد , لكن الحقيقة ليس هناك تضاد , بل حصل توهّم تضاد , وليس تضادًا حقيقيًّا , وشاهد هذا النوع من المطابقة قول خالد محمد التيبي(2):
زرفل الميعاد منا يالمطر والشمس غابت
وإن ضحك برقك بكت عيني على عقل المطايا
فالمتأمل في هذا البيت ، يجد كلمتين متضادتين ، وهما الفعلان الماضيان “ ضحك – بكت “ غير ان التضاد لم يكن تضادًا مباشرًا ، بل هو تضاد فيه إيهام وتوهم ، إذ أن “ ضحك برقك “ ليس فيه ضحك حقيقي ، بل ضحك مجازي ، وهذه الجملة استعارة وايضا من الامكان ان تكون كتابة كذلك ، وهي كتابة عن انهمار المطر , بينما جملة “ بكت عيني” ليس فيها مجاز ، بل هذا الكلام يدلّ على بكاء حقيقي لا تحوير فيه .
3 – المقابلة
دخل في مجال الطباق ما عرف باسم المقابلة “ وهو أن يؤتى بمعنيين متوافقين ، أو معان متوافقة ، ثم بما يقابلهما او يقابلها على الترتيب “ (1) ومثال نوع المقابلة قول سعد الحريص(2):
كنت فْعيوني على حد اليها المستحيل
في عين بدر الدجى وِفْعين شمس النهار
فقد أتى الشاعر في هذا البيت بعبارتين متناقضتين ، وكانت العبارة الأولى “ بدر الدجى” بينما كانت الثانية “ شمس النهار” إذ أن كل من “بدر – شمس” متناقضتان ، في الوقت الذي حصل فيه التناقض أيضا بين “ الدجى – النهار “ وعلى هذا الاساس سمّيت هذه الحالة بالمقابلة ، وهي إتيان الشاعر بمعنيين ثم يأتي بما يقابل ذلك المعنى على الترتيب ، وقد أوردت كتب البلاغة بأن المقابلة قد تكون واقعة بين اثنين بأثنين او واقعة بين ثلاثة بثلاثة او بين أربعة بأربعة أو بين خمسة وخمسة ، والامثلة موجودة في هذه الكتب لمن اراد الرجوع إليها للاطلاع والاستفادة (3).
4 - الالتفات:
اعتبر ابن المعتز الالتفات – وهو مؤسس علم البديع – بأنه من محاسن الكلام وبديعه ، وقد عرّقه بقوله : “ الالتات هو انصراف المتكلم عن المخاطبة الى الإخبار, ومن الإخبار الى المخاطبة ، وما يشبه ذلك ، ومن الالتفات ، الانصراف من معنى تكون فيه الى معنى آخر “ (1) حيث يتمحور الالتفات في الانتقال في الحديث من حالة الى حالة ، وذلك عندما ينتقل المتحدث من التكلم المباشر الى الغيبة على سبيل المثال ، وهذا الفن البديعي يثير النشاط الذهني والنفسي للمتحدث وللسامعين ، ومن الالتفات قوله تعالى” قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم “ (2). فقد كان الخطاب القرأني متوجهًا بشكل مباشر الى العباد من خلال قوله “ قل ياعبادي” ثم اتجه الخطاب بعد ذلك الى الغائبين “ الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله “ ومنه في الشعر النبطي قول خِضيْر الصعيليك في مدح الشيخ فارس الجربا(3).
مِتْخيّرك يا منقع الجود والطيب
لا خيّب الله للأجاويد طلاب
حيث انتقل الشاعر بخطابه الشعري من مخاطبة الممدوح الى الإخبار عن موضوع أخر هو اقرب للدعاء ، وهذا العمل كما قلنا قبل قليل يثير النفس ويحرك الذهن ، وذلك أن الالتفات من الأساليب البلاغية الجميلة في اللغة ، إذ يساعد هذا النوع الشعراء على إمكانية الانتقال بالخطاب الشعري من حالة الى حالة أخرى ، ويريح أنفس السامعين ويشدّ انتباهم ويثير مشاعرهم ، وذلك بسبب انتقال الشاعر من نمط بلاغي الى نمط بلاغي اخر ، وهو رغم جماله لا يقدر عليه الا الشاعر الماهر المتمكن ، ولا يقبله الا الفاهم الحاذق المتمرس ، ومن وهَبَهُ الله نعمة التفكير والتأمل .
فلقد قام الشاعر خضير الصعيليك بالتفات في المعنى وانتقال في الأسلوب من ضمير الخطاب الى الغياب وتغيّر مسار الحديث من مخاطبة شخص بعينه الى الكلام عن مسلّمة اجتماعية ذات طابع ديني رأى الشاعر أنها ضرورية في هذا السياق ، وهذا الالتفات الحاصل في بيت الصعيليك داخل في مبحث نقدي حديث هو الانزياح، حيث حصل هنا انزياح مكّن اللغة الشعرية من الانتقال السَّلِس المَرِن , وسوف يأتي مجال للحديث عن الانزياح اللغوي فيما بعد من مباحث هذا الكتاب وعليه فانه يمكننا القول بأن ذهب خِضيْر الصعيليك في هذا الاستعمال إلى التوسع في التعامل مع اللغة وفي أسلوب الكلام (4) اذ تختلف المسميات وتبقى المضامين كما هي ، فما كان يكتبه ابو الفضل احمد الهمداني من مقامات ، انما هي اشبه بما يعرف عندنا هذه الايام بالقصة ، وما كان يدور من نقاشات حول السرقات الادبية هو الذي نسميه اليوم بالتناصات الشعرية (5). ومن هذه الحالة نتوقف مع الالتفات الذي أصبح هذه الايام يعرف أو يدخل في مجال الانزياح اللغوي ، وسوف يأتي فيما بعد وقت للحديث عن الانزياح ان شاء الله تعالى .
محمد مهاوش الظفيري
هامش المحسنات البديعية المعنوية في الشعر النبطي
1 - التورية
1- الخطيب القزويني – الإيضاح في علوم البلاغة – ص331 .
2- جريدة البلاد السعودية - عدد يوم الأحد 10يونيو 2012م – ملف ملامح صبح
2 - الطباق
1- الخطيب القزويني – الإيضاح في علوم البلاغة – ص317 .
2- سعد القاسمي – روائع الشعر الشعبي الحديث – ص45 .
3- المرجع السابق – ص 86
أ - طباق الإيجاب
1- عبد العزيز عتيق – علم البديع – ص79 .
103- سلطان العميمي – خمسون شاعرًا من الإمارات – ص94 .
ب - طباق السلب
1- عبد العزيز عتيق – علم البديع – ص80 .
2- خالد الفيصل – أشعار خالد الفيصل – ص257 .
ج- طباق ايهام التضاد
1- عبد العزيز عتيق – علم البديع – ص80 .
2- سعد القاسمي – روائع الشعر الشعبي الحديث – ص54 .
3 - المقابلة
1- الخطيب القزويني – الإيضاح في علوم البلاغة – ص321 ،322 .
2- محمد مهاوش الظفيري – الشعر رجل والقصيدة امرأة – ص234 .
3- راجع - عبدالعزيز عتيق – علم البديع – ص87 وما بعدها – وكذلك الخطيب القزويني – الإيضاح في علوم البلاغة ص322،323 .
4 - الالتفات:
1- عبد العزيز عتيق – علم البديع – ص143 .
2- سورة الزمر – الآية:53 .
3- إبراهيم الخالدي – المعلقات النبطية – 242 .
4- عبد الملك مرتاض – نظرية البلاغة – ص122 .
5- المرجع السابق – ص117