هو نقطة تحول بالغة الأهمية في تاريخ الحضارة الإسلامية في الأندلس , لأن ابتكاراته وتجديداته لم تقتصر على الغناء والموسيقى , ولكنها امتدت لتشمل حياة المجتمع الأندلسي .زرياب هو أبو الحسن علي بن نافع , واشتهر بلقب زرياب وهو اسم الطير الأسود ذي الصوت الرخيم . ويقال أنه لقب بذلك من أجل سواد لونه وفصاحة لسانه وحلاوة شمائله . أما كلمة زرياب فهي فارسية الأصل وتعني ماء الذهب .
ولد زرياب في بغداد عام 161ه/ 777م. ويبدو أن والده كان من الوافدين إلى بغداد , وكان زرياب من موالي الخليفة العباسي المهدي (ت 169ه/ 785م) . تعلم زرياب فن الغناء والموسيقى في بغداد على يد إسحاق الموصلي (ت 235ه/850م) ,الذي كان صاحب مدرسة للغناء والموسيقى في العاصمة العباسية , والموسيقار المفضل لدى الخليفة هارون الرشيد (ت 193ه/ 809م) . وإذا كان زرياب قد أخذ في بداية حياته الفنية بعض ألحان أستاذه ووضعها في أغان جديدة له مع شي من التغير والتطوير, فأنه سرعان ما انطلق مستقلا في ألحانه و أغانيه, بحيث لم تمض سنوات قليله حتى أتقن صناعة الغناء والموسيقى أتقانا فاق فيه أستاّذه,لا سيما أن الكثير من عناصر النبوغ والإبداع كانت متوافرة في شخصية.في بلاط الرشيدشاءت الظروف أن يطلب الخليفة هارون الرشيد من إسحاق الموصلي أن يرشح له مغنيا بارعا,فذكر له تلميذه زرياب, وقال انه قد أتقن الغناء والموسيقى على يديه ويتوقع إن يكون له شأن كبير في مقبل الأيام. فطلب الرشيد منه أن يصطحبه معه إلى مجلسه وبالفعل حضر زرياب برفقة أستاذه إلى مجلس الخليفة. ودار حوار بين الرشيد وزرياب حول بعض المسائل الفنية ثم سمع الحانة وغنائه فأعجب بيه إعجابا شديدا بل دهش بما انطوت عليه شخصيته من عقل من منطق ومواهب فنية. ويحسن بنا إن نقل مقطعات من هذا الحوار كما ورد في احد المصادر الأصلية “ ..فلما كلمه الرشيد (أي كلم زرياب) أعرب عن نفسه بأحسن منطق وأوجز خطاب وسأله عن معرفته بالغناء فقال زرياب “نعم أحسن منه ما يحسنه الناس وأكثر ما أحسنه ليحسنونه مما لا يحسن ألا عندك ولا يدخر إلا لك فان أذنت غنيتك مالم تسمعه اذن قبلك”فأمر الرشيد عندئذ بجلب عود أستاذه أسحاق ولكن زرياب رفض العزف عليه وقال “لي عود نحته بيدي وأرهفته بأحكامي ولا ارتضي غيره وهو بالباب فليأذن لي أمير المؤمنين في استدعائه فأمر الرشيد بإدخاله إليه فلما تأمل الرشيد عود زرياب وكان شبيها بعود أسحاق فقال له الرشيد ما منعك ان تستعمل عود أستاذك, فقال زرياب أن كان مولاي بغناء أستاري غنيته بعوده وأن كان يرغب في غنائي فلابد لي من عودي فقال له الرشيد ما أراهما ألا واحدا وهنا شرح زرياب للخليفة الفروق بين عوده وعود أستاذه منها مثلا : أن وزن عوده يساوي ثلث وزن عود أستاذه وان بعض أوتار عوده من الحرير وبعضها من مصران شبل الاسد فالوتران السفليان صنعهما من امعاء شبل الاسد والعلويان من صنعهما من الحرير مما يجعل ترانيم عوده اكثر صفاء ووضوحا اضعاف الاوتار الخرى واكسب اوتار فتعجب الرشيد من وصف زرياب لعوده ثم امره بالغناء فاندفع يغنيه قصيدة من تأليفه يمدح فيها الخليفه وبعد ان اتم زرياب النوبه طار الخليفة طربا ثم سال الخليفة اسحاق الموصلي معاتبا:لماذ اخفى علي هذا المغني ولم يقدمه له حتى الان فببر اسحاق له ذلك بقوله ان زرياب نفسه كان قد اخفى تلك المواهب عنه ثم طلب الرشيد من اسحاق ان يهتم بزرياب.الأستاذ الغاضب .. والتلميذ الهارب بعد أن اكتشف الخليفة عبقرية زرياب الموسيقية، وأبدى إعجابه الشديد به، سُقِط في يد إسحاق، وهاج به من داء الحسد وغلّب صبرَه ، فخلا بزرياب وقال له: “ياعلي، إن الحسد أقدم الأدواء وأدواها، والدنيا فَتّانة، والشركة في الصناعة عداوة، لا حيلة في حسمها، وقد مكرتَ بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلوّ طبقتك، وقصدتَ منفعتك، فإذا أنا قد أتيتُ نفسي من مأمنها، وعن قليل تسقط منزلتي، وترتقي أنت فوقي، وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي، ولولا رعيي لذمة تربيتك لما قدّمت شيئاً على أن أُذهِب نفسك، يكون في ذلك ما كان، فتخيّر في اثنتين لا بد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة، لا أسمع لك خبراً بعد أن تعطيني على ذلك الأيمان الموثقة، وأساعدك لذلك بما تريده من مال وغيره. وإما أن تقيم على كرهي ورغمي، وتكون السبب في سقوط شأني عند الخليفة، فخذ الآن حذرك مني، فلست والله أُبقي عليك، ولا أدع اغتيالك، باذلاً في ذلك بدني ومالي، فاقضِ قضاءك”.
فكر زرياب في التهديد الذي وجّهه إليه أستاذه، إنه تهديد صريح بالقتل غيلة، وماذا يمكن أن يفعله شاب فقير مغمور في مواجهة رجل كثير المال، عريض الجاه، واسع النفوذ، يماثل في أيامنا هذه ما يمكن أن يسمّى وزير الثقافة والفن؟! واختار زرياب الفرار، وفضّل النجاة بنفسه من الاغتيال، فخرج من بغداد لوقته، وأعانه إسحاق على ذلك سريعاً بمال وفير، فرحل ومضى متوجهاً نحو بلاد المغرب، واستراح قلب إسحاق. وتذكّر الخليفة الرشيد زرياب بعد فراغه من أمور كانت تشغله، فأمر إسحاق بإحضاره، فقال له إسحاق: “ومَنْ لي به يا أمير المؤمنين؟! ذاك غلام مجنون، يزعم أن الجن تكلّمه وتطارحه ما يُزهى به من غنائه، فما يرى في الدنيا من يَعْدِله، ما هو إلاّ أن أبطأتْ عليه جائزة أمير المؤمنين وترْك استعادته، فقدّر التقصير به والتهوين بصناعته، فرحل مُغاضباً ذاهباً على وجهه مستخفياً عني، وقد صنع الله تعالى خيراً في ذلك لأمير المؤمنين، فإنه كان به لَمَم ( جنون ) يغشاه ويفرط خبطه، فيفزع من رآه”.
فسكن الرشيد إلى قول إسحاق، وقال: “على ما كان به فقد فاتنا منه سرور كثير”.