الفنون لإنسانية تقوم على أركان تمنح الإنسان الوصف الأساس كممثل للفن باختلافه ، كمطرب أو ممثل أو رسام أو قاص ٍ أو شاعر ؛ الإبداع هو الهرم في كل هذه الفنون ، وهو كمرتبة أعلى من التصنيف العادي لا يستحقه إلا من تجاوز مرحلة إتقان الأساس بالموهبة الفطرية إلى مرحلة تثقيف النفس باكتساب ما يلزم لتطوير التجربة و إظهارها بصورة أجمل بإضافة الفنيات إلى الأساسيات ليظهر النتاج بلمسات أخّاذة لا يستطيعها الجميع . لو قصرت الحديث على الشعر لقلت أنّ كل من باعتماد الأركان ؛ الوزن ، و القافية لخدمة معنى فهو شاعر ولا خلاف على ذلك ، لكن من أضاف لهذه الأركان فنيات بقدرة حقيقية فسيتجاوز بالوصف مستحقًا إلى مرتبة شاعر مبدع ، و من فنيّات الشعر التي نادرًا ما أجدها في نتاج الشعراء ؛ “ الموسيقى الداخلية “ كفنيّة متقدمة ؛ فلا تتشكل في القصيدة عبثًا ؛ بل هي نوتة تتناغم في البيت الواحد لتنعكس على كل القصيدة كمقطوعة موسيقية متوازنة ؛ باعثها تفاصيل دقيقة كتكرار الحروف في البيت أو الاعتماد على اشتقاق الكلمة الواحدة أو توحيد وزن بعض الكلمات و لأن الأبيات أجزاء القصيدة فسينعكس الأثر على المقطوعة الشعرية كاملة ً . وكفنية من فنيات الإبداع لم أجدها إلا عند مُبْدعِين يندر وجودهم في كم الشعراء و من ضمن قائمة الندرة الرائعيَن ؛ نواف التركي و علي الضوي و ليست الفنية الوحيدة التي يعتمدها الشاعران لتكون قصيدتهم فارقة عن غيرها بل هي شاهد الحديث هنا ؛ و سأقدِّم لكم شواهد من نتاجهم كتفصيل لهذه الفنية .. و سأبدأ بأبيات للشاعر نواف التركي :
ما أقـــول عايف ولكنّي كرهت الزحام
ما أقول خايف ولكنّي عــذرت السفيه
قلت أترك الخلق للخالق و أغيب بسلام
من يوم صار الحديث الغث كل ٍ يبيه
و في غيرها من أبيات التركي ؛ تجد موسيقى في غالب الأبيات ينعكس أثرها على كل القصيدة لتجد أنّ هناك سر يفرقها كمقطوعة عن غيرها !! و لو أردت الحديث في البيتين الشاهد لوجدت أن الشاعر يبعث موسيقاه من خلال ؛ الاعتماد على الكلمات المتجانسة كما هو في “ عايف و خايف “ و كذلك اشتقاق الكلمة الواحدة كما هو في “ الخلق و للخالق “ و الكلمات ذات الوزن الواحد كما هو في “ أقول ، أترك ، أغيب “
وهذا قول الشاعر علي الضوي كشاهد من تجربة مكتملة :
حب هذا الحب و إلا جروح
و كل جرح ٍ ما لقى نزفه
ضيقة وحيرة تجي و تروح
ذنب تافه .. و اعتذار أتفه
حب يعني روح تشبه روح
و أنت تشبه شي ما أعرفه
فمن يستشعر النغمة الداخلية في هذه الأبيات و يبحث عن مسبباتها فيكفيه تتبع الحروف “ الحاء و الراء و الشين “ في الكلمات بامتداد الأبيات ؛ والجميل أكثر تنوّع مخارج هذه الحروف ، و تكرارها متنوعة يكفل للبيت الواحد تنوع في النغمة و توحيد في النوتة و مثله مثل زميله في الإبداع يعتمد على الفنيات الصوتية التي تمنح أبياته فرقًا عن غيرها من الأبيات .
لذلك فالإبداع كدرجة أعلى ليس حكمًا مطلقًا ، بل هو مقيّد بتجاوز الشاعر الموهبة الأولى الفطرية بثقافة اكتساب تمنحه مستوى أعلى في سلّم التقييم بمهارته التي تتجاوز أساسيات التجربة إلى فنياتها .. كما هو الحال مع الرائعين الضوي و التركي .. و لهما خالص الاحترام لأنهما يحترمان الشعر و ينعمان عليه بتفاصيل تمنحه مستوى آخر العمل فيه لا يقتصر على الوزن و القافية و المعنى فقط ..!
فواز بن عبدالله
Fawaz11100@hotmail.com