في زمن تثاقلت فيه هموم المواطن العربي و تضاعفت همومه الاجتماعية و الثقافية لجأ بعض الأدباء الى ترجمة هذه الهموم و المشاكل التي يعانيها أبناء بيئته الى نصوص و أطروحات أدبية و فكرية ، فكان الشعر من ابرز الأساليب التي انتهجها الكثيرون نظرا لقيمته في التأثير على المتلقي كرسالة مباشرة الى الحاكم و مؤججة لثورة المحكوم ،والتاريخ السياسي حافل بهذا اللون من الشعر على مرّ الاحقاب. الا انه قد انحسر انحساراً ملحوظاً في القرن العشرينفالشَّاعر المعاصر لَمْ يرَ حوله إلاَّ النكسات المتعاقبة التي تُوِّجَتْ بسقوط الخلافة الإسلامية، ثم سقوط العواصم العربية والإسلامية الواحدة تلو الأخرى غنيمة باردة بأيدي الإستعمار الذي حسمها بزرع الكيان الصهيوني “إسرائيل” في قلب العالم العربي!هنا وهناك، واعتداءات سافرة على الإسلام وشريعته، وهو في تلك الأثناء مُكَمَّم الفم، مكتوف اليديْن .. بَلْ يواجه التشريد من الأوطان، والإقصاء التعسفي من داره أوْ عمله، ويُحَمَّل مسئولية ما فعله السفهاء من قومه!.
كما لا ننسى أشعار العظماء في الشعر السياسي رفضا و نقما و تمردا على سياسات حكامهم و نذكر على سبيل المثال الشاعر أمل دنقل حين قال:
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن -يا أمير- الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك!
من هنا بدأت ثورة الشعب و رفض التنازل انطلاقا من مبدأ العين بالعين ، فتوارث هذا الرفض عند الشعراء المعاصرين الذين مجّدوا وعرضوا وأشادوا أو نسفوا تلك الثورات بكلماتهم التى رددها وأنشدها الشعب إنفعالا” وتفاعلا”،وبين تفاعلنا مع الثورات وانفعالنا،وبين ارتباطنا بالتراب والأرض التى ننتمى إليها وتعبيرنا عن ذلك الإحساس الفطرى للوطن الذى لامناص من تداخله وجداله مع من يحكمون- يناضلون من أجل تراب الوطن أو بريق السلطه-كتب الشعراء وعبّر كل منهم عن رؤيا نتبناها ونتغنى بها أوتعبر فينا ولا مساس بقدسية الحكم التي تجعل لحروفنا أحيانا صدى و أحيانا كثيرا تقابل بالقمع و الاضطهاد. اذ أنهم لا يتصنَّعون “الشِّعر السياسي” ولا يتكلَّفونه كالأغراض الشعرية الأخرى، إنما يفرض نفسه عليهم فرضاً .. وإنهم مُساقون إليه سوقاً، ومدفوعون إليه دفعاً .. ربما لسوء الأحوال الاجتماعية وتدهور الأوضاع السياسية، أوْ ربما بسبب طبيعتهم النفسية القلقة، أوْ بفعل شياطينهم المردة، أوْ بسبب قسوة الحياة، وحشية المجتمع، ضراوة الأنظمة الحاكمة، ووعورة الطرق التي يسلكونها!
فاعتبر بعض النقاد أن الشعر السياسي ليس مجرد صور شعرية و نظم أبيات تقابل بالاطراء و الاعجاب و انها هو شعر رسالي ، يحث القارئ على تنمية دوافعه الثورية و توظيفها من أجل النهوض بمستقبل شعب ينعم بالحرية و السلام ..
لكن السؤال الذى ظل يفرض نفسه بقوة فى الأوساط الثقافيه والأدبيه عن الفرق بين هذا النوع من الشعر الذى سمى(بالشعر الوطنى)الذى يفجر الثوريه وحب الوطن والأرض،والشعر الذى يمجد السلطة و(الساسه) وينحاز إلى الحاكم فيصفه بالكرم وهو البخيل،ويصفه بالعدل وهو الظالم،ويصفه بالشجاعه وهو الجبان،ويذهب هذا النوع إلى أبعد من ذلك إلى أن يصبح الشاعر البوق الدعائى للسلطه، فكان الاختلاف بين الوطني و السياسي محلّ جدال كبير بين اوساط الادباء في التسمية الصحيحة لكل نمط ...لكن هذا لم يؤثر على وعي القارئ في التمييز بين الشاعر الوطني و الشاعر الدعائي للسلطة ...اذ نلاحظ في مجتمعاتنا العربية قلّما نجد شاعرا يمدح حاكمه لان سيقابل بعد ذلك بالنقد و الذم باعتباره شاعرا متحيزا لسياسة الاذلال التي يتبعها الحكام العرب ...
وهناك قصائد مهمة جداً جاءت لترفع الستار عن الواقع الذي عاشه المواطن العربي و تأييدا لرفض الظلم و الاستبداد، مثل: قصيدة جـلاّد الكنانـة! ورسالة في ليلة التنفيذ! ورسالة في ليلة النصر! وفلسفة الثعبان المقدس، والخروج من السجن الكبير، واللَّعين الأول، وفرعون مصر، وفرعون وقومه.
وقذائف الحياة الأولى، وصرخة من خلف الأسوار، والقدس عروس عروبتكم، والسيرة الذاتية لسيّاف عربي، وأغاني الديكتاتـور، ومبارك العميـل، والحاخام يخطب في بغداد، وكـِلاَب وأُسُـود، وصـلاة الكُهَّـان، وارحــل يا جبان، وارحــل .. يا بلطجـي، وارحلـوا عنا .. إلى غير ذلك من القصائد التي تقطر دماً.
سناء الحافي