أميلُ إلى تكذيب تاريخ العرب البطولي في عصر ما قبل الإسلام و العصر القبلي في السنين الأربع مئة الأخيرة لأني مؤمن بقياس التاريخ بمقاييس عقلية تُبْنى على المنطق و ما يمكن حدوثه وما لا يمكن..! وكل ما ينافي المنطق أجد فيه رائحة الوضع الزائف ..! و ميلي هذا ليس من باب التطاول ولكنّه شعور طبيعي مع دور العاطفة العربية في تغيير معالم التاريخ الحقيقية ..! فكثير من القصص البطولية في إرثنا العربي هي أقرب إلى النمط الأسطوري الذي لا يمت لواقع البشر بصلة ، وما وضعت الأسطورة إلا كمتنفس يهرب فيه الناس من واقعٍ مُرٍّ يخرجون فيه أنفسهم من حقيقة الذل والهوان التي يعيشونها ، و دائماً و أبداً عصور الجهل والضعف تعتبر أرض خصبة لظهور الأساطير الشعبيّة ،حتى أدعم توجهي هذا سأذهب بكم إلى شخصيّة خلدها التاريخ العربي كفارس و شاعر لا يشقُّ له غبار لأقيس بالطريقة التي تحدثت بها عن واقعية سيرة هذا المُخَلّد في الموروث العربي .. فأنا أميل إلى أسطورية البطولة لفارس بني عبس “ عنترة بن شداد “ و ميلي هذا قائم على معاير عرب الجاهلية و أسسهم الاجتماعية و تصنيفهم الطبقي .. فمنطقياً مع تلك الدائرة الاجتماعية الضيّقة جدّاً لا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال أن تكون الفرصة متاحة لشخص بظروف عنترة بن شداد ووضعه الاجتماعي إن يشق صفوف الأبطال ليكون من الشواهد الأولى في تاريخ بطولة العرب ..! فهل يعقل لعبدٍ في العصر الجاهلي أن يتمثل الصفات البطولية ..؟! وحتى مع قوله صلى الله عليه وسلم : “ ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة “ فهو حديثٌ سنده منقطع بسقوط راوي ٍ أو أكثر .. فليس من الضرورة إن يصح هذه القول عنه صلى الله عليه و سلم ..! ولاحظوا أنّي تطرقت لشق البطولة في شخصية عنترة و لم أتطرق لشق الشعر .. لأني أحفظ حق الشاعرية لكل الأجناس فقد يكون عنترة الشاعر له واقع ، أما عنترة البطل فهو أسطورة ينفي المنطق واقعيتها ..! وليمتد الحديث إلى أكثر من هذا فأنا أعلن صراحةً أنّي لا أثق كثيراً بالبطولة العربية الشعبيّة .. و بالأخص تاريخ القبائل العربية في العصور الأخيرة ..! لأن قياس المنطق لا يتوافق مع العاطفة و كلنا يعلم أنّ تاريخ القبائل ما هو إلا رواية لم توثق بمخطوط بل تم نقلها شفهياً بتأثير عاطفي كبير و العاطفة تلغي تمامً الحقيقة .. فكل ما في هذا الإرث قصص و قصائد ينقطع سندها فتجد الواحدة منها تنسب لأكثر من شخص و لأكثر من قبيلة فلا تدري أين الحقيقة ..! حتى أنّ بعض قصص أبطال القبائل فيها تطاول على التاريخ الإسلامي بشكل سافر و خيرُ مثال لهذه التطاول قصة فارس إحدى القبائل و شاعرها و أميرها الذي وقع في الأسر عند الأتراك و بعد إن دارت رحى معارك و إذا به يطلب من سجّانه أن يفك قيوده ليشارك في المعركة و فعلاً كان له ما طلب و أبلى بلاءً حسنا و كانت مكافأته أن أطلق سراحه .. أليست هذه القصة شبيهة بقصة “ أبو محجن الثقفي “ ..؟! الذي بسبب الخمر قيّد في معركة القادسية و مُنِع من مشاركة المسلمين في القتال و بعد أن طلب فك قيده ليشارك في القتال سرّاً كانت المكافأة بإطلاق سراحه من قبل سعد بن أبي وقاص ..! و لكن يا أصدقاء ألم تلاحظوا أني أتحدث عن التاريخ و لم أتطرق للواقع المعاش هذه الفترة ..؟! كان حديثي بهذا الشكل لأني مقتنع تماماً بأننا لن نشكّل شيئاً في تاريخ العرب القادم سواء أكان هذا التاريخ واقعي أم أسطوري ..! فانعدام أسس البطولة في الواقع الذي نعيشه و اعتبار السلامة مكسب حقيقي كفيلٌ بأن ينهينا من خارطة الذكر و الذكرى “ البطولية “ مع لحظة النفس الأخير الذي نتنفسه ..! أما شق الخلود الشعري فلا أتوقع أن هناك من يستحقه من شعراء هذا الجيل لميلهم إلى الأغراض اللحظية التي تنتهي مع انتهاء الحالة التي تمثلها سواء أكانت هذه الحالة للشاعر أم للمتلقي ..؟! فلا خوف على حقيقة التاريخ ولا أسطوريته من هذا الجيل فالعيش على الهامش سبيل إلى ولوج فضاء العَدَم ..!
فواز بن عبدالله
Fawaz11100@hotmail.com