التوطئة
هناك فرق بين الرحيل والسفر , فالسفر فيه رغبة واختيار , وهو يكون ناتجًا عن الانطلاق من مكان معين للوصول لمكان آخر ومحدد , والسفر لا يأتي إلا من روية وتفكير , بينما الترحال ناتج عن عدم اختيار , ويحمل في طابعه الاستعجال , إذ ينطلق الراحل فيه إلى مكان مجهول , وبالنهاية يعتبر الترحال أمرًا قسريًّا خارجًا عن الإرادة .
السفر فيه مرح ومتعة بينما الترحال فيه حزن ولوعة , والمسافر مصيره العودة بينما الراحل قد لا يعود , ويكفي أنا نقول لمن مات : رحل عن الدنيا , ولا نقول له سافر عن الدنيا ، والترحال رغم مرارته وقساوته فإنه يقي صاحبه من الاستسلام , وهو بعبارة أخرى لا يؤمن بهيمنة المكان عليه , ولا يرضخ لسلطة الأفراد على قراراته , غير أنه يرمي صاحبه في دوامة الزمن والترحال دليل على المعاناة , بينما السفر فيه إشارة على مشاركة الإنسان للمكان في التحول , حيث يستبدل مكانًا بمكان ومنزلاً بمنزل وأهلاً بأهل . والسفر والترحال يشتركان في الحنين والشعور بالغربة , والترحال يوحي بالاستمرارية في التنقل.
القراءة
سلا م ياللي رحل بالوهن يا معذور
باجواز ليلٍ ويذوي الليل من ذاري
ابتداء الشاعرة بالسلام مؤشر على حتمية الاستسلام لقدر الترحال الذي سلب منها من تحب , وسلمه ليد الأقدار , هذا الترحال جذب معه الوهن والليل الذي يذوي في إشارة على تقلص الشعور بالزمن , لأن الترحال انتقال من المكان وغيا عنه , ودخول في غياهب الزمن بحيث لا يمكن اللقاء به إلا وهمًا , وذلك من خلال استحضاره من عالم الذكريات :
خليه يرحل وبي اجهاشة المكسور
ياما نشدته,, وبلغ طلة نهـاري
يتحرك الخطاب الشعري ضمن هذا السياق وهو سياق الغياب والترحال , وقد استحضرت مشهد الترحال من بوابة الانسياق وراء الألم “ جهاشة المكسور “ , لأن مواجهة الزمن المتمثل بتغييب الأحبة مسألة لا يقوى الإنسان على التصدي لها , وذلك من أجل تكثيف حضور الحزن ضمن هذا النسق المشبع بالألم والأسى والشعور بمرارة الفراق لجأت الشاعر لهذه الرغبة الاستسلامية في الانسياق للقدر , وهو قدر الرحيل “ خليه يرحل “ كإشارة منه على عدم المقدرة على التصرف
سلام ياللي رحل بالوهن قبل شهـور
والدار عتمة , عتيمك جاك منهـاري
بس التفت له وهذا بـردك المذعـور
عمن سألته ؟؟؟ وطاح البرد في ناري
لعل الشاعرة هجير لم تأتِ بجديد في أول هذا الكلام , حيث أعادت تكرار “ سلام ياللي رحل بالوهن “ مرة أخرى هنا بعد أن أوردته في أول النص , لكن قد يفهم من مسألة التكرار هذه في المقابل أنها حضرت في السياق كإعلان على حضور الحالة , وهي حالة الترحال , ومن ناحية أخرى فإنها جاءت نتيجة لمدى تكثيف ألم الفقد في نفسها , مما يدفعنا هذا التعاطي إلى إمكانية فهم هذه الحالة على أنها لا زالت واقعة تحت تأثير قوة الصدمة التي لم تستطع الخلاص منها , لكنها وضمن هذا السياق وسعت دائرة الشعور بالألم وسلطت الأضواء على جوانب أخرى في المكان , لأنها تأثرت بهذا الفراق والترحال “ الدار عتمة – بس التفت - وطاح البرد في ناري “ , لأن البرد يوحي بالخوف ومؤشر على الذبول والموت , كموت المشاعر , كما أنها أنسنت الأشياء من حولها لتمنحها قوة معنوية تمكنها من استحضار الألم في داخلها , وهذا عائد إلى قوة العاطفة التي منحتها القدرة على هذا الكم من التخيّل , فمن المعروف أن الخيال والعاطفة عنصران متلازمان في هذا المسار , فلا يمكن أن تكون هناك عاطفة قوية ومؤثرة ما لم يواكبها خيال قادر على عرض هذه العاطفة بصورة أعمق.
تدري اني كنت ادور للمواجع عـن بقايـا
زمجرة ريح انتحابك كلها تسكن بصـدري
أمس لجت في رقات الصبح لجت للزوايـا
هالجروح اللي تهاوت في حزون الهم بدري
والثواني لا ترامت برد في أقصى الحنايـا
ثرثرة تندس فيني وفي عروق الليل تجري
هذا المقطع يضج بالحنين , وفيها رهبة من سطوة الزمن وتسارع الأيام , وفي هذه المقطوعة المكونة من ثلاثة أبيات أيضًا ترتفع فيه اللغة الشعرية بشكل يمنح الخيال متعة التأمل , هذا الارتفاع في الصوت الداخلي للشعر يتوارد من خلال تلميح الشاعرة بمسألة الترحال دون ذكره صراحة , والتلميح بحد ذاته يمنح الكلام عمقًا شاعريًّا , حيث نراه يتشكل في الجمل الشعرية الصغيرة التي وضعتها الشاعرة هنا “ زمجرة ريح انتحابك – الثواني لا ترامت – ثرثرة تندس فيني – وفي عروق الليل تجري “ , وذلك أن ألم الترحال انتقل من كونه حالة حدثت في الماضي إلى ألم يتسلل إلى زوايا جسمها “ تسكن بصدري – برد في أقصى الحنايا “ , إذ ينتقل هذا الألم , وهو ألم الشعور بمرارة الترحال من ذكرى تسكن الخيال إلى هم عاطفي ووجداني يسكن مشاعرها , وفي هذا التوظيف تربط الشاعرة الماضي بالحاضر , ولا تحدث أي فصل بين المسارين .
المسا وإن جاك حادي يسبر أغوار السجايـا
وش خذا الترحال منه قلت هذا الشوق جمري
يشب في جرد السوالف ونةٍ مثـل الونايـا
من يلوم الجرح لما يثمل غيابك يا عمـري
هنا تحصل ملازمة بين الترحال والزمن الذي دل عليه “ المسا “ حيث إن الحسرة التي يتركها الترحال في النفس الإنسانية يتصاعد لهيبها مع هطول الليل , وهذا ما أشارت إليه الشاعرة هجير , إذ يشعل “ برد السوالف “ ويحول الكلام إلى أنين “ ونة مثل الونايا “ , وقد زاد من هذا الحضور الأسلوب الشرطي الموجود في البيت الأول من هذا الكلام ليعمق من مسألة الشعور بالأسى , إذ أن هذا الحضور لم يكن متواجدًا بالفعل وإنما مجرد الإيحاء به يحرك الخيال ويثير الانفعال في النفس , وهو انفعال الترقب الذي لا يدري صاحبه متى سيحل به ذلك الحضور :
من لحظة هيامي و هو يوقف على بيباني
والذكرى اللي في رواق البيت هي رواقه
هذا الذي يومن كرهته بداخلـي يلقانـي
شخص جريح والغياهب ترتمي بخفاقـه
يلج لأعماقي وكني صرت شخص ثاني
أتناثر بعتمه ومسرى هاجسي ما راقـه
ألقاه بين الاستياء اللي افتعـل هجرانـي
وبين العيون اللي لمحت نجماته البراقـه
هذا الذي يسرح بعيد وتسألـه شطآنـي
يمشي بعيد هناك وأطلق للهبايب ساقـه
هناك ما يلقى سواي هناك من يمحانـي
في جملة أحلامي يتوه ان أقبلت منساقـه
لم تتطرق الشاعر في هذه المقطوعة الشعرية للترحال , وإنما أومأت إليه , وذلك من خلال تكثيف المفردات أو الجمل الموحية بهذا الترحال “ الذكرى – للغياهب – افتعل هجراني – يسرح بعيد – يمشي بعيد هناك – وأطلق للغياهب ساقه “ حيث شكلت هذه الأنساق التعبيرية زخمًا نفسيًّا جعل الشاعرة تحس بمسألة الشعور بالفراغ النفسي , الأمر الذي جعلها تجده في داخلها في الوقت الذي تعاني من فقدانه , بالإضافة إلى حضور الرموز الدالة على الأماكن هنا “ بيباني – رواق البيت – العيون – نجماته البراقه – يسرح بعيد – شطآني – يمشي بعيد – هناك , التي تكررت أكثر من مرة “ لأن هذا الاستحضار الكثيف لرموز المكان جعلها تشعر بالدوران خاصة أنها تستخدم بين الفينة والفينة الأخرى الظرف “ هناك “ الدال على المكان , مما يوحي بأنها تنقل بعيونها وتشير بأصابعها في كل هذه الزوايا , وهذا بدوره يخلق حالة من التّوَهَان الذهني رغم الإحساس بعمق الشعور بالحنين واشتعال العاطفة في الوجدال . وبإمكاننا تأمل هذا البيت بشكل عميق:
من لحظة هيامي و هو يوقف على بيباني
والذكرى اللي في رواق البيت هي رواقه
لأن هناك توافق بين الهيام و” البيبان “ باعتبار أن الهيام مكانه القلب وأبواب القلوب هي العيون , وهذا يقودنا لفهم حالة الاندماج العاطفي عند الشاعرة , التي ظل الحبيب يتمرجح بينهما فمسكنه في القلب فرضه وجوده بين العيون , وبعبارة أخرى أشدّ توضيحًا , نقول , بأن خياله لم يبتعد عن عيونها , وهذا ما يدعمه سياق الشطر الثاني من هذا البيت , حيث إن الرواق يمثل الحاجز الذي يقي البيوت ويحميها من أي شيء خارجي , وعلى هذا نستطيع القول بأن ذكراه في قلبها شكلت لقلبها رواقًا يمنعها من النظر لسواه , وهذا الوضع يجعل مسألة الترحال تمنح الموضوع عمقًا نفسيًّا يفتح مجالات التأويل من أجل استيعاب هذه الزوايا
لقد كان لاختفاء لفظ “ الترحال “ في هذا الكلام فتح لمجال التخيل رغم ورود كلمات تكاد تكون متقاربة معه مثل “ الغياهب – هجراني – يتوه “ غير أنها لم تكن قادرة على ملء فراغ كلمة الترحال التي تدل على ما ذكرناه في أول هذه القراءة , لكن المتأمل في عموم الأبيات في هذه المقطوعة يجد أن الشعور العاطفي المرتفع والذي واكبه خيال متقد ومشتعل زاد من حرارة الكلمات والجمل الشعرية , وجعل الأمر يكون أكثر انطلاقًا في هذا المجال
هلا بتلويحة الفرقا يا حسادي .. أهّلـي بالـوداع ولـو أرددّهـا
ترى ( من لا يوّدك ) من قبل قيلت ولكن تطوي الديجور كله طي
ثم تقول بعد ذلك:
هلا بـتلويحة الفرقا إلى أقصاها أمّد أسفار ذاكرتـي ولا أمّدهـا
أمّد بخطوتي غربه ولا أمدّها , ونا في حيرة المطعون قلبي عـي
و أقول بخاطري ( فرقاه ) يا حالٍ ,, خذلت الأمنيات ولا تعدّدها
أخاف اللي شعل تسهيدة البارح , يشب الشوق ما شب الحنايا ضي
الملاحظ أن الشاعرة هجير تلجأ لمثل هذا التكرار “ هلا بتلويحة الفرقا “ , وقد كررت هذا التكرار في نص آخر “ سلام ياللي رحل بالوهن “ مرتين غي ذلك النص , وهذا مؤشر أن الوقوع تحت هجير الترحال محرض على هذا النوع من الكتابة , وهو عائد إما لعجزها عن قول شيء جديد وفق هذا السياق , أو أنها خاضعة لثقل هذا الشعور الذي دفعها للميل لمثل هذه الكتابات , وذلك من أجل تكثيف صورة الترحال والغياب في نفسها , وأيًّا كانت النتيجة أو كان الدافع في وضع الشاعرة إلا أنها في المقابل لا تستطيع الإفلات من قبضة شعورها بالألم , هذه القبضة التي لم تمكنها من الخروج عن دائرة المدلولات المنساقة ضمن مسار الترحال ك، “ الوداع – فرقاه – غربة “ وكأن مسألة تكرار الصيغ التعبيرية المتشابهة يوافقه تكرار , ولكنه تكرار من نوع آخر , وهو تكرار من حيث الإشارات الدلالية للكلمات أو الجمل الشعرية المنضوية وفق هذا المسار.
ومن ناحية أخرى فإن هذا الطاروق الطويل مؤشر على أن الدرب طويل والترحال ممتد , وهذا ما سنلاحظه في آخر هذه القراءة:
ما عاد به ضلع غدا هزاله هـزال
ويا ما اتعبه قلبٍ به الهـم شايـل
ان لاح بوصالٍ ويرحل بلا وصال
لما تحس بطيـف ظلـه ايتمايـل
مشاهد
يتكرر المشهد , وتتداعي ذات الحالة , لكن الصورة تختلف في الغالب , هذا الاختلاف المتجدد يمنح الخيال مساحة في الرؤية , لا سيما في حال هذين البيتين , وذلك من أثر مسألة الترحال على الداخل “ ضلع – قلب “ غير أن آثاره لا تكون شاخصة بقوة بقدر ما هي أشبه ما تكون بالومضات الخاطفة التي تسرق الأنظار والقلوب “ إن لاح – بطيف ظله “ وذلك أنا الشاعرة هجير حاولت التوفيق بين العاطفة من خلال التركيز على “ ضلع – قلب “ وبين الخيال عبر “ إن لاح – بطيف ظله “ لأن التوافق والتناغم بين الاثنين يمنح الصورة الشعرية درجة مرتفعة من العمق , ويكثف من مسألة الشعور بألم الترحال في النفس , خاصة وهي تشير بقولها “ ويرحل بلا وصال “ وكأنها تريد رحيلاً على مقاسها ووفق ما تشتهي , مع العلم أن الرحيل شجن لا يعترف بالوصال , لأن كلا المدلولين يناقض الآخر ويصعب التوفيق فيما بينهما.
أرمي الترحال و متون النوايا, قد طواها حطامـي
تستطير الريح تقدح في شررها بارقـك بسهولـه
للضلوع اللي تهاوت , ثم تهاوت وسط جرح ٍ دامي
لو على ذكراك , خليّت المنابت بالهـدب مبلولـه
و المداين مثل ما قلبي هجرها ,, للعنا المترامـي
أخمد الهوجاس فيني أو رماده , أنثره مـن حولـه
تتسع الرؤية لتشمل أوسع قدرًا في النظر إلى هذا الهاجس , وهو هاجس استغراقي متغلغل في النفس , وذلك من خلال اعتماد الشاعرة على هذا القدر الايحائي من الكلمات المنضوية وفق سياق الرحيل والترحال “ النوايا – حطامي – الروح – الضلوع – ذكراك – الهوجاس “ وهي حقيقة رغم تنوعها تلتقي فيها المشاعر بالأخيلة , وتتداخل في بعضها البعض , حيث إن الكلمتين الأخيرتين يصبان في سياق الأخيلة بينما تدور الكلمات الأخرى في فلك العواطف , وهي – أي الشاعرة – حينما تلوذ بمثل هذه الاستخدامات رغم اختلاف الصيغ التعبيرية , تكاد أن تكون تدور في محيط لا تستطيع التخلص منه , كما أنها حينما قالت “ أرمي الترحال “ إنما كانت تحاول اختلاق واقع جديد يخلصها من واقعها المعاش , أي أنها هي أيضًا تريد الارتحال , وكأن الترحال تحول معها من موعد مع الحب إلى موعد مع الحياة.
أنا لما افترشت الصمت ,, في ليلٍ تجيشه
هموم الواله اللي من تباريحه ,,,, تدفّـت
أطّرز من حواشي الغيم لو تظماه “ ليشه “
ويرحل قبل ما يسأل عيوني ليش رفّـت
يظل هاجس الترحال ملازمًا الشاعرة , وهذا ما لمسناه في العديد من نصوصها في هذه القراءة , وذلك أنه ارتبط بنظرتها للحب وموقفها منه بعد ذلك , وهي هنا تواصل السير في نفس المجال , لكنها تلتفت إليه من بوابة الصمت , والصمت رحلة داخلية وترحال عكسي نحو الذات , باعتبار أن الكلام فيه انتقال إلى الأمام ورحلة إلى الخارج , خارج الفم , ومن بعد ذلك خارج جسد الإنسان المتكلم , وذلك أن المتكلم يقول بإيصال حديثه للمقابل الجالس أو الواقف أمامه , أما الصمت فهو إحجام عن الكلام وتراجع عن مخاطبة الآخرين , وفي هذا التصرف تقهقر إلى الخلف , ورحيل بطريقة عكسية , وهي حينما لجأت إلى هذا الاستخدام حاولت التوفيق في هذا التوظيف وعملت على إيجاد حالة من التناغم بين الحالة والمفردة المستخدمة في هذا السياق , حيث كانت الكلمات أو الجمل متقاربة مع هذا التوجه “ ليل] تجيشه – هموم – تباريحه – قبل يسأل عيوني ليه رفّت “ ففي هذا الاستخامات اللغوية لا توجد أصوات مرتفعة أو منخفضة , بل حركات ومشاعر تتلاطم في جو من الصمت , وهي في الحقيقة لا توحي بالرحيل , وإنما جاءت مواكبة للصمت الذي يعتبر رحيل لكن بطريقة أخرى , وهو ارتحال عن الكلام واختباء وراء جدار الصمت .
إن المتأمل في “ أطـّرز من حواشي الغيم “ يدرك أن الشاعرة تريد تزجية الوقت , وهذا يذكرنا بمن كانت النساء تفعله في الماضي للخلاص من أوقات الفراغ في الغزل والنسيج “ التطريز “ , غير أن هجير هنا ليست كالسابقات من النساء لأنها شاعرة لهذا تطرز الغيم وكأن الغيم لغة علوية قادمة إليها من ملكوت الشعر , لهذا تطرز الكلمات من أجل ذلك الراحل عنها , غير أن هذا الانتظار وهذا التطريز للخلاص من الوقت متواصل معها بشكل مستمر “ و يرحل قبل ما يسأل عيوني ليش رفــّت “ لأن العين لا “ ترف “ إلا عد إحساس صاحبها بأنها سترى حبيبًا سيعود في القريب العاجل.
صرت أشاغب طيفه الغايب إذا حلمي ضويته
شدوا ظعان الطيوف ادري تعـذرت بنباهـا
لو على كل اصطباري قلت والله مـا تليتـه
ولو على هذي الاماني ما أتل اللـي تلاهـا
غاية اللي ما تناساها , لهـا أمـر ٍ نويتـه
ما تبرر غاية الفرقا سـوى شـي احتواهـا
يمكن ان البعد يبكيهـا وانـا يمكـن بكيتـه
باقي التذكار تنهيـدة علـى ردهـة دجاهـا
حينما لم تستطع الشاعرة مقاومة هذا الشيء الذي اخترق حياتها , وسلب منها الحبيب وتركها تكابد مرارة الترحال , نجد أن الشاعرة أخذت بتعويد نفسها على هذا الوضع من أجل التعايش معها , وهنا تحول الكابوس والهاجس المريرة إلى ضرورة ملحة ألزمها بالتوقف عندها , وأنها غير قادرة على فعل شيء يذكر تجاهه , لهذا تعمل على تكثيف مسألة التعايش , وذلك من خلال المشاغبة “ صرت أشاغب طيفه الغايب “ وهذا ما جعلها تجد المسوغ لها بالجلوس وعدم الذهاب معه “ أدري تعذرت بنباها – والله ما تليته - ما تبرر غاية الفرقا – يمكن إن الأمر يبكيها “ حيث نلمح من هذه الجمل الموضوعة بين ظفيرتين ما يدعم هذا الاعتقاد , وهو اعتقاد تأويلي بالدرجة الأولى , لأنه يمنح المتأمل إمكانية الربط بين هذه السياقات التعبيرية للوصول لمرحلة الكشف , والكشف والاكتشاف مهام نقدية عويصة تجعل القارئ للنصوص يمارس طقوس العابد المتصوف , وهذا ما استطاعت الشاعرة منحه لنا في هذه المقطوعة , لأنها جنحت لإقناعنا وإقناع نفسها بهذه الخيارات , وهي ما جعل عملية الربط سهلة ومتاحة .
الخاتمة
في عدد من نصوص الشاعرة هجير نلمح رغبة شكلية في التخلص من الأوزان الشعرية التي نلاحظها في شعر عدد كبير من الشاعرات كالمسحوب والهجيني القصير والطويل والشيباني وبعض الألحان السامرية , حيث لجأت الشاعرة لطواريق مختلفة , وكأنها تريد تأكيد ثقافة الترحال في شعرها , وذلك أنها حينما أحست بألم الترحال وأثره في نفسها , أرادت مقاومته ومواجهته بما تملك من أدوات , لأنها كامرأة غير قادرة على التصدي لنكران الرجل العاشق , وكإنسان ليس بمقدورها التصدي لإرادة الزمن , لهذا أرادت التعامل مع ما تملكه من أسلحه وهي أسلحة القوافي والأوزان , لذا نراها تتصدى للشعر وكأنها تريد إشباع غرورها الأنثوي في هذا السياق خدمة لذاتها وإرضاء لها في آن.
مثال الأوزان
ففي البيتين الأولين من إحدى قصائدها , تعمل الشاعرة هجير على صياغة هذه القصيدة على تفعيلة سداسية العدد , وهي تفعيلة “ مفاعيلن “ التي التزمتها الشاعرة في كل أشطر قصيدتها هذه:
هلا بتلويحة الفرقا يا حسـادي .. أهّلـي بالـوداع ولـو أرددّهـا
ترى ( من لا يوّدك ) من قبل قيلت ولكن تطوي الديجور كله طـي
حرام الليل يتسّهد على (مـن لا) أجّـر الـروح لغيـاب ٍ تنهّدهـا
كذا ( من لا يوّدك ) جرح متهاوي مابين ضلوعي الولهى وبين الغي
ثم نراها في مجال آخر تقتحم عالمًا آخر من هذه الأوزان , حيث تقول في نص آخر لها:
يا نور عين اللي تمنيته ,, على البعـد نـاوي
غرايبك محكيةٍ ,, هامت على نوض قرطاس
هات النبا في مجمل شجوني وذا العـود ذاوي
لين انكسر حالك وحال اللي شعل جمر الأنفاس
وفي نص آخر كذلك تقول:
صباحك العاطر يسلم لي على الطير والراك
والزهر بغيابك يسولف لي اذا الفجر يطريك
والمتأمل في وزن كلا النصين يجد فيه ابتكار , لم تقم فيه الشاعرة , لأنه متداول في “ طواريق القلطة أو كما يسميها الآخرون المحاورة “ , وهو نفس وزن المسحوب غير أن مضاف إليه في أول كلا الشطرين “ مستفعلن “ , وقد عمدت إلى هذا التفصيل من أجل التيسير لأن الحديث في هذا المجال , لا سيما وزن المسحوب وهذا الطاروق يطول .
في نص شعري ثالث للشاعرة هجير تواجهنا هذه القصيدة التي منها هذين البيتين:
أمْر بك يا سديرة البال الظليل ,, وما لقيت مواري
وتمر بك كل الهجوس جليسها جذعٍ كسير الحيله
واليوم يا عيدانة المسرى ترى عقبك تلوح أفكاري
عنيت غر سحايبك في لمعةٍ تبرق وعيني تخيلـه
هذا النص من نوع الحداء , لكنه “ حدا “ طويل جدا , إذ أن يوزن على “ مستفعلن / مستفعلن / مستفعلن / مستفعلن / مفعولن “ وبإمكان القارئ أن يلحظ أن “ مفعولن “ أصلها في الأساس “ مستفعلْ “ , غير أنها تكتب “ مفعولن “ للتسهير , وقد جرى العمل على هذا المنوال عند العروضيين .
لم تقف الشاعرة هجير عند هذا الحد من التنويع في الكتابة الشعرية , إذ نراها في نص رابع من نصوصها الشعرية التي تقول فيها :
يهّف الشوق .. وان هفهف على وجنة دريشه
على تجعيدة محّيا ,, هنـاك الريـح هفّـت
لعين البارق الرفّاف .. و إطراقة “ عويشه “
و مرزام الرثـام اللـي تناسيتـه ,, تلفّـت
حيث جاءت هذه القصيدة على وزن “ مفاعيلن / مفاعيلن / مفاعيلن / فعولن “
القوافي
لم يقف جهد الشاعرة هجير عند حد الأوزان الشعرية , فقد واكب هذا المجهود الوزني مجهود آخر , وهو متعلق بالقافية الشعرية , حيث إنها كتبت هذه الأبيات على قافية ثلاثية:
يوم الرجا مأمول و ذود أفكارك ,,لـقيادها نهّاضي
تخالها ومجاجها التنهيـدة ,, وتجرنـي لـهزالـي
شيٍ غدا بي يجول ما خليته أمشي وقلبي راضـي
حتى اصطخابات الشقا وجروحه فيها السهر ينثالي
والدرب ذا مجهول لين استرخى بين الجفن وألحاظي
خزر العيون اللي استفاقت فيها رحيب كل أطلالـي
مثلك يشيل حمول هذا طرفك ياذا الهدب , برّاضي
اثر الخواطر كاللواقح مرت فيها الندامـى خيالـي
وعنانه الهملول وصهابية يشعل عناهـا بياضـي
مثل الغريب الملتحف بسهاده وكل الجهات أسمالـي
محمد مهاوش الظفيري