من من القراء الكرام لا يعرف القصيدة اللامية الشهيرة للشاعر اليهودي السموأل بن عاديا الذي عاش في النصف الأول من القرن السادس الميلادي؟! تعتبر هذه القصيدة من الروائع الخالدة التي تضمنت حكماً لا نزال نرددها إلى اليوم ومنها :
إذا المرءُ لم يَدنـس من اللؤم ِ عِرضُه
فـكلُّ ِرداءٍ يـَرتَديهِ جميـلُ
وإن هو لم يحمل علي النفس ضيمها
فليسَ إلى حُسـن الثناءِ سبيلٍُ
تُعَّيـِِـُرنا أنا قـليــلٌ عـديــدنا
فقـلتُ لها إن الكـــرام قـليــلُ
وما قـلّ مَن كانت بقـاياه مِثلَنــاُ
شبابٌ تسامي في العُلا وكهولُ
وما ضـّرنا أنا قليـلٌ وجـارنا
عزيزٌ وجاُرُ الأكثرين ذليلُ
من خلال هذا النص القديم يتضح لنا مدى علاقة اليهود بالشعر العربي وتأثرهم به وأنها ليست علاقة طارئة بل هي ضاربة في أعماق التاريخ ، فنحن نرى لأول وهلة بأنه لا غرابة في استمرار تعاطيهم مع الشعر العربي إذا علمنا أن العربية هي اللغة الأم لثلة منهم ، وقد جاء في كتب الحديث وكتب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أهدر دم الشاعر اليهودي كعب بن الأشرف بسبب قصائده التي يهجو فيها الرسول والمسلمين .
حقيقة العلاقة بين الثقافتين العربية واليهودية:
يرى عددا من الباحثين أن الثقافة اليهودية في المجالات الأدبية والفكرية قد تأثرت بالعرب المسلمين في الجزيرة العربية حيث نجد هذا التأثر واضحا وجليا على نتاجات اليهود اللغوية والأدبية التي أخذت تحاكي فيها الأساليب اللغوية والأدبية العربية .
فقد منح الإسلام اليهود صفة (أهل الكتاب) أو (أهل الذمة) عندما انتشر الإسلام فأصبحت الدولة الإسلامية مسؤولة عن سلامتهم فأخذوا بعلوم المسلمين وألفوا للمرة الأولى في التاريخ كتب النحو ومعاجم الألفاظ تقليدا للمسلمين العرب ولم يقتصر الأمر على ذلك بل نجد أن الشعراء اليهود قرضوا الشعر العبري وفقا لأوزان البحور الشعرية المألوفة في اللغة العربية وتناولت فنون الشعر العبري في ذلك الوقت جميع الأغراض الشعرية المعروفة في الشعر العربي كالمديح والهجاء والفخر والرثاء والحكمة كما نجد أن الشعراء اليهود حاكوا الشعراء العرب في النظم العلمي والتعليمي وكذلك نظم الأحاجي والألغاز ،ولم يؤلف اليهود كتبا علمية في قواعد لغتهم إلا بعد أن تتلمذوا على يد المسلمين العرب ونشأوا في عهد الثقافة الإسلامية نشأة مكنتهم من فهم العلوم العربية على اختلاف أنواعها .
ويقول الناقد اليهودي (يهوذا الحريزي) :أن الشعر البديع الحافل باللآلئ قد كان في بادئ الأمر مقصورا على أبناء العرب المسلمين وحدهم وهم يفوقون في شعرهم شعراء العالم قاطبة ومع أن لكل أمة شعراءها فإن شعرهم لا قيمة له ولا وزن في مقابل شعر وزنوه بموازين صادقة لأنهم وحدهم المستأثرون بالشعر العذب الجميل في فحواه ولفظه ومعناه من الإسماعيليين ، ثم يضيف متحدثا عن تأثير الشعر العربي في الشعر بقوله :»إن بني شعبنا بعد جلائهم عن أرض كنعان قد قطن الكثيرون منهم مع العرب المسلمين في أوطانهم وألفوا التحدث بلغتهم والتفكير بتفكيرهم... وبامتزاجهم بهم تعلموا صناعة الشعر الموزون في اللغة العبرية والجدير بالذكر أن الشعراء اليهود عرفوا الأساليب البلاغية المألوفة آنئذ عند العرب المسلمين... التي كانوا يزينون بها قصائدهم ويحلون أشعارهم».
اليهود و ثقافتنا الشعبية :
ويجري على الأدب الشعبي ما يجري على الفصيح في قضية التأثر والتأثير في النسيج الأدبي والاجتماعي عند اليهود وتشير بعض المصادر الأدبية والتاريخية في اليمن إلى أن أحد مؤسسي مدرسة الشعر الحميني في اليمن هو الحاخام سالم بن يوسف الشبيزي (1619ـ1720م) وكان يكتب الشعر باللغتين العربية والعبرية وإن كان حظ الأولى أوفر من تاليتها، وقد وضع كتاب الديوان الذي احتوى على 550 قصيدة فصّل فيها عادات وتقاليد وأعراف وسلوكيات المجتمع اليمني، نشر الديوان الفريد لأول مرة في عام م1977 من قبل معهد بن زفي الإسرائيلي.
كما ورد في عدد من مخطوطات الشعر النبطي قصيدة لشاعر يدعى (أبوعتابه) وصفه الجماع والنساخ بـ (الشاعر اليهودي) ولم أر أي زيادة في وصفه على ذلك ،كما لم أطلع على أي ترجمة له فيما بين يدي من المصادر،والحقيقة أنه بعد مراجعة النص الشعري ـ ربما الوحيد ـ المنسوب إلى هذا الشاعر اتضح سبب إطلاق هؤلاء الجماع والنساخ هذا الوصف على الشاعر رغم عدم معرفتهم به أو اطلاعهم على سيرته حيث جاء في قصيدته :
يا بوخصر العقيق وثوب مسلم
أنا صابني شي ما صاب مسلم
أنا عفت اليهود وجيت مسلم
أريد اسلم على دين الصحابة
وفي مطلع القصيدة أشار إلى شخصه (أبوعتابه) والذي يظهر أنها شهرته وليس اسمه حيث قال :
حماماتٍ بهاك الصوب لاحن
خذن قلبي ولا أدري وين راحن
بلابيل الهوى بالصوت ناحن
يجرّنّ علي يا(بوعتابه)
من خلال الأبيات السابقة تشكل الانطباع عن هذا الشاعر ، والحقيقة أن هذا النص رغم أنه في شكله الظاهري يأتي بطريقة (المروبع) المعروفة في الشعر النبطي إلا أن المتمعن في النص يلحظ تأثره بالفلكلور العراقي وسيطرة نهج العراقيين في شعرهم الشعبي على اتجاهه خاصة في ظل ما نلمسه من بروز للهجة العراقية في ثنايا الأبيات ، ولا شك لدي في كون الشاعر هنا ممن مارس الزهيري والأبوذية والعتابا والميمر وتخرج من مدارسها رغم أن هذا النص يعتبر طويلاً جداً قياساً على تلك الأنماط من الشعر الشعبي العراقي التي تتخذ من الجناس أساساً للتلاعب اللفظي المموسق في عدد قليل من الأبيات .
وهنا يترجح لنا أن الشاعر من أهل العراق ومن المعروف أن لليهود في العراق تواجد قديم وبرز منهم في القرن العشرين عدد من السياسيين والشعراء والفنانين والتجار وهاجر غالبيتهم إلى إسرائيل بعد سنة 1948م ، وممن عرف بكتابة كلمات الأغاني العراقية الفنان فلفل كرجي (توفي في إسرائيل 1983) والفنانة سلطانة يوسف (ت1995م) .
ومن اليهود الذين ظهر أثرهم في الثقافة الشعبية في جانبها الغنائي الملحن صالح الكويتي (1908-1986) وشقيقه الفنان داوود الكويتي (1910-1976) وقد كانا موسيقيين يهوديين كويتيين من أصل عراقي يعتبران من الفنانين المهمين في النصف الأول للقرن العشرين.
وقد أبدى صالح وكذلك أخوه داود شغفاً بالموسيقى منذ الصغر، وتلقيا دروسا في العزف والغناء لدى الموسيقار الكويتي المعروف خالد البكر، ففي البداية تعلما الألحان الكويتية والبحرينية واليمانية والحجازية ثم تعرفا على الموسيقى العراقية والمصرية بالاستماع إلى الاسطوانات،وحين تقدما في العزف والغناء أخذا يشتركان في إحياء حفلات لدى المعارف والأقرباء والشيوخ والوجهاء في الكويت أولاً ثم في أقطار الخليج وكان صالح الكويتي ماهرا في العزف على الكمان في حين اشتهر أخوه داود بالعزف على العود، وفي عام 1927م رافقا المطرب الكويتي المعروف عبد اللطيف الكويتي ـ الذي تغنى بكثير من القصائد النبطية ـ إلى البصرة لتسجيل اسطوانات ؛ وهناك برز بعد ذلك صالح بألحانه الرائعة وعزفه المدهش و اشتهر بوضع الألحان الخالدة لمعظم مطربي ومطربات تلك الحقبة أمثال سليمة مراد وزكية جورج ومنيرة الهوزوز وسلطانة يوسف كما وضع الكثير من المقدمات واللزمات الموسيقية لعدد من الفنانين في الكويت والعراق ،وكانا استقرارهما النهائي في بغداد عام 1929م و استمر صالح الكويتي وأخوه في نفس الوقت في عزف وغناء الأغاني الكويتية وكان يحي حفلات خاصة للوجهاء الكويتيين الذين كانوا يزورون العراق كما سافر أحيانا إلى الكويت لإحياء حفلات للجمهور الكويتي الذي كان ولا يزال يكن الاحترام والتقدير لاهتمام صالح وأخيه داود بالتراث الموسيقي الكويتي.
وقد أشار صالح الكويتي إلى تطويره للمقام اللامي وقال أن أصله حداء بدوي من تراث قبيلة بني لام العراقية .
وفي عام 1951م وبحكم الظروف التي نشأت بسبب النزاع العربي الإسرائيلي وصدور قانون إسقاط الجنسية ترك الشقيقان صالح وداود الكويتي العراق، فكان ذلك بالنسبة لهما نهاية حقبة حافلة بإنتاج فني غزير منحهما مكانة مرموقة في الأوساط العراقية الشعبية والرسمية على حد سواء.ويذكر أن حفيد داوود الكويتي ويدعى (شلومو الكفيتي) وهو مقيم حالياً في إسرائيل قد قام مؤخراً بنشر أعمال جده الموسيقية ومن أغانيه المشهورة :
(زر من تحب) ، (ياليل لدانه)، (ملك الغرام)،(يابديع الجمال)، (قلبك صخر جلمود)،(ياحافر البير) .
وسبق لنا في بحث سابق أن تطرقنا إلى عناية الباحث اليهودي (كلينتون بيلي) بثقافة الصحراء الذي أمضى حوالي عشرين عاما يدرس أحوال بادية سيناء وصحراء النقب ونشره كتاباً يحوي الكثير من قصائد جمعها من شعراء ورواة صحراء سيناء وغيرهم اسمه (الشعر البدوي من سيناء إلى النجف)، والحقيقة أن اهتمام إسرائيل ورغبتها في التعرف على المجتمعات العربية المجاورة لحدودها والمعادية لها يبرز من خلال إنشاء المؤسسات والمراكز البحثية التي تهتم بترجمة ودراسة آداب العرب وتراثهم و يعتبر (معهد الدراسات الشرقية ) في الجامعة العبرية من أوائل المراكز حيث أقيم عام 1926م .
قاسم بن خلف الرويس