رحل كل الكلام ولابقى فيني حناجر صوت
تلحفت الظلام وضاقت دروبي بخطواته
وحيد.. مشرد.. وضايع على درب الشقا والموت
تنفست الوجع فيني وزاد الخوف رجفاته
صباح العيد والدنيا كساها العطر والياقوت
وأنا كنت أرمي أحجار النهر وأستسرق أصواته
تمر وفود تتبادل عناقيد العنب والتوت
وأنا المنفي على درب الحنين وفوح ضحكاته
أهيجن به شريط الذكريات وخافقي له نوت
تهادى له خرير الما وطهر الغيم قطراته
تطيح أكمامي بدمع الأماني والشجن مكبوت
وأنازع هالغياب بجمرتين تزيد مأساته
بكيته لين صورته شجن في محجري منحوت
سكن صدر التعازي واستباح الروح طعناته
رحل عني وأشوف الكون بغيابه كما التابوت
ترك قلبي وسط جرد الفيافي يزفر آهاته
تفرعن بالوداع وجاوب رياح العنا طاغوت
نفث سمّه على صدر الحزين وزاد زفراته
على وجه الفراق ورحلة المقفي وفات الفوت
تحاصرني خناجر غـيـبـته ويـشـن غاراته
عطا الله المضياني شاعر شمالي أصيل الشاعرية , يكتب بأسلوب عذب , ويحرص على انتقاء الجميل من الكلام , والأصالة في الأدب تعني الجمع بين الإبداع والقدرة على التميّز والتمكن من كسب الانتباه , وهذه الأشياء إذا اجتمعت لشاعر أو توافرت في نص فإن صاحبها يكون ذا أصالة أو أن هذا النص نص أصيل , وهذا الشيء ما لمسناه في هذا النص الذي يحمل اسم التعازي للشاعر عطا الله المضياني , فهو خرج في هذا النص على السائد في رسم لوعة الغياب , والإحساس بمرارة الفقد , حينما قرنه بالتعازي المأخوذ من العذاب , ففي هذا العمل انزياح في الفهم , أما التميّز وكسب الانتباه فتكمنان في حشد عدد من هذه الصيغ الشعرية التي دعمت هذا الاتجاه : “ رحل كل الكلام- تلحفت الظلام - تنفست الوجع - وأنا المنفي على درب الحنين - تطيح أكمامي بدمع الأماني والشجن مكبوت - سكن صدر التعازي “ حيث كانت هذه الصيغ الشعرية فيها جدّة وابتكار وتنم عن مهارة شاعر قادر على خلق توليفة فنية ممتعة من العبارات الشعرية الحزينة المؤلمة , لكنها في المقابل رسمت متعة فنية متماهية مع مرارة الألم , لكن من الاتجاه المقابل , إذ كانت تتوافق طرديًّا في التأثير , وتتحرك بشكل عكسي في إيصال المعنى المراد الوصول إليه, حيث كان القارئ يستمتع بقدر ما كان الشاعر يتألم , وهذا هو الذي أشرت إليه في أول أسطر هذه القراءة من أن الأصالة في الأدب تعني الجمع بين الإبداع والقدرة على التميّز والتمكن من كسب الانتباه في هذا النص للشاعر المضياني تبدو غربة الشاعر , وهي غربة نفسية وجدانية عاطفية , وهذه الغربة متواجدة مع الشعراء وقلما يخلو من الإحساس بها شاعر من الشعراء , لكن التمايز يظهر بين الشعراء وفق القدر الذي يستطيع فيه الشاعر الإفصاح بشاعرية واقتدار عن هذا الوضع الكاشف لمكنون مشاعر وما يختبئ بين خلجات نفسه من عواطف
لقد كان العيد بالنسبة للشاعر أشبه بمأتم جنائزي حتّم عليه التعايش القسري معه وفق شروط ذلك المأتم لا حسب أولويات العيد , وما يتوجب عليه القيام به في مثل هذه المناسبات , لهذا كانت عبارات الشاعر الشعرية متزاحمة بكل هذه الإيحاءات المؤلمة
رحل كل الكلام - تلحفت الظلام - وضاقت دروبي - وحيد.. مشرد.. وضايع - تنفست الوجع فيني - وأنا المنفي - والشجن مكبوت - وأنازع هالغياب - سكن صدر التعازي - رحل عني - وأشوف الكون بغيابه - ترك قلبي وسط جرد الفيافي - تفرعن بالوداع
حيث كان السواد يلف أجواء المشاعر , ويتسلل إلى خبايا النفس , إضافة ألى أنها تكاد أن تلخص هذه العبارات المحتوى العام للقصيدة , هذه القصيدة الغارقة بشعور الوحدة والخوف من لحظات إحساس الغربة والضياع .
بحق هذه القصيدة عزاء ممتد لحالة حب فتتها الفراق , لذا كان الخوف والضياع أهم ملامح هذا النص الذي جعل الشاعر ينكفئ على نفسه ولا يرى إلا نفسه تتهاوى أمامه على الطريق حبة حبة وقطرة قطرة , كلما سقطت الأحجار في النهر لتشكل دوائر مائية تتسع ما أمكنها الاتساع لتعود من جديد مسطحًا مائيًّا عاديًّا , وكأنه يرى نفسه أو الواقع الذي يعيشه , ما هو إلا واقع يبتلع الأحزان وتتسع مشاعره من أجل احتواء كل ما يمربها من أحزان أخرى قادمة , لكن دون جدوى ودون أي طائل من التوقف عند حد معين , لأن همومه وأحزانه أشبه ما تكون بكرة ثلجية تتدحرج بلا توقف
لقد ظهر أمامنا هذا النص الحامل لعنوان : التعازي من أجل أن يؤكد لنا بأن التعازي هي مزيج بين الحضور والغياب تقوم على رسم رحلة عميقة لعالم مليء بالحزن والشعور بالتوحد , حيث جذور الألم تتفجر من هذه الينابيع الكامنة في النفس , لترسم كحروف وإشارات رمزية تسمى كلمات , تتمدد هذه الكلمات لتأخذ شكل الجمل الشعرية أو العبارات اللغوية التي تبيّن لنا حالة الشاعر النفسية بعد ذلك .
لقد اطلعتُ على عدد من قصائد الشاعر من أجل الكتابة عنه , لكونه اسمًا شعريًّأ برز بين أقرانه , وشدّ انتباهي لِمَا يحمل من شاعرية , وبعد أن قرأتُ ما قرأتُ له , أستطيع القول بأنه تبدو هذه القصيدة من بين نصوص الشاعر الأكثر كشفاً، والأكثر فهماً لذات الشاعر الغارقة بالتأمل المعجون بهذا الواقع المتشظي ، لأنّها نتاج رؤيا فلسفيّة، وخيال حالم, بقدر ما هي قصيدة بالدرجة الأولى , ففي هذا النص حالة خاصة , حيث ظهر في هذا الكلام نفور عاشقة وتحسّر عاشق , وليس هجران متبادل أو فقد بمعناه الحقيقي المباشر , وذلك أن الشاعر هنا قام بفلسفة الذات وهي روح الشاعر وبفلسفة الموضوع وهو حال القصيدة , وهذه الأشياء من ضروريات الإبداع , وقد كانت الغنائية الشعرية متجلية , حيث كانت الروح الغنائية الطاغية على القصيدة هي التي جعلتها مميزة رغم أن الموضوع مطروق ومتداول , لكن روح الشاعر ولغته وصياغته الشعرية هي كلها مجتمعة كانت أشبه بخلطة سحرية وسرية دفعت بالنص إلى الأمام في نفسية المتلقي , وكاتب هذه السطور الذي كان واحد من هؤلاء
ما شد انتباهي في هذا النص هو تضاريس الحياة الوجدانية التي استطاع الشاعر التوليف فيما بينها بقالب شعري , المتماهية مع تصوّراته الفكريّة وبفلسفته المتوغّلة في أعماق اللاّشعور , وذلك من خلال هذه الأمثلة
- ولابقى فيني حناجر صوت
- وحيد.. مشرد.. وضايع
- تنفست الوجع
- وأنا كنت أرمي أحجار النهر
- تمر وفود تتبادل عناقيد العنب والتوت
- وأنا المنفي على درب الحنين
- أهيجن به شريط الذكريات
- تطيح أكمامي بدمع الأماني
- وأنازع هالغياب بجمرتين
- بكيته لين صورته شجن في محجري منحوت
- سكن صدر التعازي
- رحل عني
- وأشوف الكون بغيابه كما التابوت
- ترك قلبي وسط جرد الفيافي يزفر آهاته
- تفرعن بالوداع
- نفث سمّه على صدر الحزين
فقد أوضح هذا الكلام حتمية الفراق , وأن النهاية حالة طبيعية لكل وصال ولقاء فكما أن الموت ظاهرة انسانية ، وحقيقة كونية , فكل مولود مصيره الموت , لكن الموقف منه يختلف ، تبعا لعوامل متعددة , تختلف من حالة لحالة , ومن شخص لشخص , وهكذا هو فراق المحبين , الذين يرسمون لنا لوحاتهم الشعرية بطريقة تثير فينا التأمل والاستغراق الفلسفي , كما في هذا النص الذي قرأنا فيه كيف استطاع الشاعر أن يتجاور فيه مع نفسه
, ولولا هذا الحوار الداخلي لتخيلات الحزن ما استطاع الشاعر الخروج لنا بهذا النغم المعروف باسم قصيدة “ التعازي “ التي تجلت من خلال الاتحاد بين الشعر والموت العالق بخيط مشدود إلى شعلة الحياة
محمد مهاوش الظفيري