يحكى أن ملكاً من الملوك أصيب بمرض عضال في أنفه فقرر الأطباء قطع أنفه لئلا تصاب أجزاء أخرى من وجهه بالمرض , وفي الاجتماع الشهري مع وزرائه وعماله , نظر إليه وزير ذو حظ قليل فضحك وأضحك الباقين , أغضب ذلك الضحك ذاك الملك فأمر بقطع أنوف كل من كان في مجلسه من العمال والوزراء. وحتى لا يصبح علية القوم بمنأى عن الشعب في هيئاتهم وأشكالهم , سرى عرفٌ عندهم بقطع أنوف كل امرئ منهم , فأضحت المملكة مملكةً للأنوف المقطوعة , حتى إذا وُلد لهم وليدٌ أمروا بجز أنفه وقت طهارته .
زار هذه المملكة رجلٌ بعد عشرات السنين وهو ذو أنف !! فأخذ الجميع ينظرون إليه فيضحك بعضهم ويقهقه بعضهم الآخر , وأخذوا يشيرون إليه من باب السخرية والتهكم , حتى قال قائلٌ منهم : ألا يفقه أهل هذا الرجل !!
منذ آلاف السنين , ابتلي شعب مصر في العبودية فطحنتهم حتى أصبحوا كأنهم يعيشون بين شقي رحاها فسرت في عروقهم مجرى الدم , قال لهم فرعون “أنا ربكم الأعلى” كذلك قال “وهذه الأنهار تجري من تحتي” ، فظن المصريون على مدى مئات السنين من حكم الفراعنة أن “الرب” فرعون هو من يُسير نيلهم العظيم بإرادته وكرمه فأصبحوا يُسبحون بحمد “الفرعون” إلى أن كسر رب الأرباب ربهم الفرعوني .
من كان يزرع على ضفاف النيل كان له النصيب الوافر من الربوبية المزعومة على من يليه من فلاحين ومزارعين حتى آخر فلاح من جهة الصحراء , إذا غضب من يلي النيل على من بعده أعاق وصول سر الحياة له , ولذلك وجب على الباقين من بعده نيل نصيبهم من الاسترقاق والعبودية .
أتى الإسلام حاملا في تباشيره المعنى السامي للحرية والنفور من الرق والعبودية إلا لله جل جلاله , وهذا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب مخاطباً عمرو بن العاص رضي الله عنهما والذي كان والياً على مصر في القصة الشهيرة “ متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً” وشهد التاريخ أن الاسلام أزال تراكمات رماد الاستعباد عن كواهل المصريين حتى تم استعبادهم من قبل الدولة العُبيدية الاسماعيلية«969-1171م»مروراً بالدولة الأيوبية«1171-1250م» فالدولةالمملوكية «1250-1517م»والتي حكمت بالمماليك وهم مجموعة من العبيد استقدمهم الأيوبيون لمصر , تلا تلك السنين بزوغ نجم الدولة العثمانية والتي بسطت هيمنتها على مصر«1517-1867م» والعالم الاسلامي , وتخلل ذلك الاحتلال الفرنسي لمصر«1798-1801م» , وحكم عزيز مصر محمد علي باشا «1805-1848» ذلك الرجل العظيم والذي شهدت في عهده مصر طفرةً في العلم والصناعة والتجارة والعسكرية , تلا ذلك الاحتلال البريطاني«1882-1953م» حتى انتهت الملكية في مصر عام 1953وكان آخر ملوكها الملك فاروق والذي نُفي إلى روما في إيطاليا حتى توفاه الموت .
ومن ذلك يستطيع المستقرئ للتاريخ إدراك ما لمصر من أهمية تاريخية جعل الأمم تتكالب عليها وتنازعها حريتها وكرامة أبنائها .
ما إن انقشع ضباب الملوكية حتى جثم على صدور المصريين حكمٌ عسكريٌ استمر من عهد جمال عبدالناصر ثم أنور السادات فحسني مبارك , والناظر لهذه الفترة الزمنية القصيرة«1952-2011» يرى التقهقر العظيم في شؤون مصر كلها علمياً واقتصادياً وعسكرياً وسلباً لكرامات الناس وحرياتهم , بمعنى آخر “العبودية المحلية الغير مستوردة”, وفي خلال تلك القرون المتعاقبة , ما إن يرفع المصري رأسه ليستنشق عبق الحرية حتى تزكم أنفه أغلال العبودية.
أتت ثورة الخامس والعشرين من يناير لعام 2011 لتزيل غبار العبودية عن أفئدة المصريين الذين استطابوا طعم الحرية والذين أذهلوا العالم بإصرارهم على قيم الحرية والعدالة الاجتماعية وحتى استغربنا أفول نجم كلمات لامعات من القاموس المصري مثل يا بيه , يا باشا , ويا فندم , وأضحت الديمقراطية الناشئة مدار حديث الدنيا بعدما ازدانت به أمها !!
انتخب المصريون بغالبيتهم الرئيس الدكتور محمد مرسي الذي حاول جاهداً ومجتهداً أن يرسخ معاني الحرية فلا سجيناً لرأيه ولا موتوراً لقوله . لم يصبر الناس في مصر على هذه الحرية الوليدة بل كانت عند أناس كثيرين مثل ذلك الرجل ذي الأنف السليم عندما دخل في مملكة ذوي الأنوف المقطوعة , فأخذوا يسخرون من الحرية ويحنون إلى سني العبودية التي ما لبثت أن عادت بانقلاب الجيش المصري على يد الفرعون الجديد « عبدالفتاح السيسي».
د.عزيز الظفيري
azizfromkuwait@hotmail.com