إن الكتابة عن الوجه الجديد للشعر لا يعبر عن الحرص على إبراز ما به من رؤى وتصورات فقط ، بل يتعدى النصوص الشعرية المطروحة للتداول إلى ما هو خارج تلك النصوص ، وهو العمل على إنصاف هذه التجارب التي صمدت رغم محاولات التهميش والالغاء التي تعرضت لها في بدايتها الأولى، وكذلك لإنصاف أولئك الذين ساروا في ركابهم فيما بعد من الشعراء ، ومن ناحية أخرى من أجل الوقوف بهذا الصخب المتصاعد المؤازر للقصائد المنبرية ذات الصيغة الخطابية المباشرة، وعلى ضوء هذا الحديث يجدر بنا الإشارة إلى أن هناك بعض النصوص الواقعة تحت مظلة التجديد من الإمكان أن تكون صالحة للإلقاء والمشافهة، أما بعض نصوص التفعيلة الأخرى، وأعني بها تلك النصوص المضغوطة أسلوبيًا أو المكثفة دلاليًا لا أتصور أنها صالحة للإلقاء ، بقدر ما هي صالحة للقراءة الجادة، القراءة المعتمدة على طول التأمل وعمق التفكير ، ودوام المطالعة إليها من أجل اكتشاف ما بها من صور شعرية نابضة بالحياة، وهذا ما لا نستطيع إدراكه أو لمسه في القصائد المنبرية التي تكون في الغالب قصائد فضفاضة، وعلى هذا الأساس لا أظن أن الشعراء الحداثيين يعملون على أن يكونوا أصواتًا تشهد على التاريخ وما حدث في الماضي أو ما يجري على أرض الواقع ، لأن مثل هذه الأمور كما يعلم الكثيرون أنها ليست من مهمات الشاعر بل هي من مهام المؤرخين وعلماء الاجتماع ، وإنما يذهب الشعراء الحداثيون في قصائدهم لكي يعبروا عن تناقضات الإنسان في دواخلهم، وعليه فإنهم يقدمون شهادات عن أنفسهم تجاه ما يجري وفي مثل هذه الأحوال تكون هذه الشهادات إما أن تصب في صالحهم أو تكون ضدهم فيما بعد ، لأنهم معنيون بما في أنفسهم ، وغير معنيين عما يتخذه الناس من مواقف ، وما دام أنني قد وصلت إلى هذه النقطة من التناول فيلزمني القول بأنني لم أركز على الكلمات التي في المقاطع ، ولم أحرص في الغالب على رصد تلك الكلمات رغم أنني أنتهج العمل المعجمي اللغوي في هذه المباحث، ولكن لم أحرص على بثها في الكتابة ، وذلك أنني كنت أعتمد على تلمس الجو العام للمشهد، ومن ثم الحديث عنه فيما بعد، وهذه مسألة أشبه ما تكون بالطرح الفلسفي وذلك أنني في هذا التناول كمن يسير فوق الدبابيس وهو حافي القدمين ، غير أن معايشة الألم فرصة للإحساس بطعم المغامرة ، ومدى الشعور بألم الوخز سبيل لمعرفة طريق النجاة، ولابد من الاعتراف بأن الخطاب النقدي، كان ولايزال من خلال بعض المشتغلين به ، ما هو إلا رؤى وانطباعات تمثل آراء شخصية يغلب عليها طابع الانفعال والحكم الآني اللحظوي، لكنه هذه الأيام يمثل غير ذلك، كما هو الحال في كتابات عدد من المشتغلين في هذا الحقل الثقافي المميز ، حيث تعبر هذه الكتابات عن رؤية نقدية ممنهجة تعتمد على استكشاف فهم دلالات الرموز وفك شفرات النصوص الشعرية، وذلك من خلال الابتعاد عن الوقوع تحت طائلة التأثييرية التي يتحكم بها الانفعال الشخصي.
لا أدعي أنني قمت بالإلمام بكل التجارب التي ساهمت في مجال تحديث القصيدة الشعبية ، كما أعلنت أنني قمت بترك بعض التجارب الشعرية التي يشهد لها الجميع بالفاعلية والتأثير في هذا المجال، وذلك ليس لأنها لا تتوافق مع الخط الذي أسير عليه أو لا تتلاءم مع المسار الذي انتهجته، بل لأنها كانت تعمل في فضاء آخر هو الذي مكنها حقيقة من الانتشار والبروز المكثف وهو فضاء يختلف عن فضاء الكتابة والقلم والورقة وكما أنه توفرت لدى قناعته أن هناك عامل آخر غير عامل الإبداع الفني المكتوب ساعد في انتشارهم وتميزهم السريع والملحوظ، وهو عامل الغناء ، حيث أوصلت نصوص فايق عبد الجليل وبدر بن عبد المحسن وعبد الرحمن بن مساعد وغيرهم ممن اقترن اسمهم بالأغنية الخليجية، أقول لقد أوصلت الأغاني وكذلك أصوات المطربين وحناجرهم نصوص هؤلاء الشعراء وغيرهم ، وهذه الخاصية لو لم تكن لديهم لما تميز هؤلاء الشعراء رغم جمال وأهمية ما يكتبون – على زملائهم الشعراء العاملين معهم في هذا الحقل الثقافي الجديد المعروف بشعر التفعيلة- إذ ارتبطت أسماء هؤلاء الشعراء بالأغنية وقد ساهمت الكلمة المسموعة لإيصال كتاباتهم ، وهذا عكس ما كان عليه زملائهم الذين عملوا على البروز من خلال الكلمة المكتوبة، وهذا مؤشر على وجود عامل خارجي ، أي عامل خارج إطار القصيدة ساعد على فرض قصائدهم على الساحة الشعبية ، علاوة على أنني أبعدث نصوص نايف صقر ومساعد الرشيدي وسليمان المانع وبدر الحمد من هذه التجربة الكتابية، وذلك أنني لم أجد في نصوصهم التي وقعت عليها قصائد تفعيلة، وهذا يتنافى مع الخط البياني الذي رسمته لنفسي في هذا المجال ، وهو الاكتفاء فقط بنصوص التفعيلة، حيث اكتفى هؤلاء الشعراء بالتجديد لكن بطريقتهم ، أي أنهم جددوا من خلال المفردة أو الموضوع دون أن يقتحموا الشكل الجديد وهو شعر التفعيلة مفضلين وضع الملابس الجديدة بالدولاب القديم الذي كثر استعماله ومر عليه المتعاقبون ، مع العلم أن عددًا من الشعراء الذين انتهجوا سبيل الحداثة الشعرية في الشعر الشعبي، كانوا يمزجون في قصائدهم بين النوعين، فيرى المتابع أن هذا النص أو ذاك نصًا مهجنًا ، فلا هو بالتقليدي ولا هو بالحداثي، وهذا دليل على تخبط الشاعر الشعبي، فهو في الوقت الذي يمتخر فيه الفضاء مسافرًا بين الدول عبر المطارات يحن للإبل وحليب النوق، وهو حينما يقوم بالكتابة التناوبية بين القديم والحديث في النص الشعري الواحد، إنما يعبر عن أزمة التمرجح بين التجريب والتجربة ، وأيضًا من أجل الهروب من لهيب التجربة والاسترخاء في دنيا التجريب الحالمة، فالتجربة امتداد زمني متواصل قائم على إعادة توظيف الخبرات والتجارب الإنسانية المتعددة والظروف التي مر بها والممارسات التي عايشها أو سمع بها أو قرأ عنها ، بينما التجريب عبارة عن عمل قام به الشاعر عن قصد ، وعمد ممارسته، بناءً على مؤثر خارجي واجهه أو أمر به أو عنّ على خاطره، وهذا الكلام يقودنا إلى الحديث بأن التجربة الحداثية في الشعر الشعبي في منطقة الخليج العربي وعموم شبه الجزيرة العربية ، لم تكن تجربة شعرية عميقة، أي من حيث الامتداد الزمني، لأن روادها الأوائل لازالوا يعيشون بيننا ، وعليه فإن هذه التجربة لازالت بكرًا رغم مرور كل تلك السنين، علاوة على ذلك أن النقاد لم ينقبوا في هذه التجربة إلا ما ندر وهو قليل مقارنة بما تم طرحه من أعمال شعرية حداثية ، ولكي يتم تطوير هذا النوع من التجارب لابد من تخليص الوعي من فكرة أن الشاعر الشعبي حارس القبيلة وحامي التراث ، وهذا لا يتم إلا عندما يتم الخلاص من هذا التراث ، ولا أعني بالخلاص هنا بأن المقصود من هذا الكلام حرق التراث أو نفيه من الذاكرة أو الكتابة بلغة بديلة ، أو استبدال الأحرف العربية بأحرف أجنبية أخرى، وإنما أعني بهذا الكلام تجاوزه وكتابة ما يمكن أن يكون إرثًا ثقافيًا للأجيال القادمة وعلى من أراد السير في هذا الركب أن يكون مثقفًا تنويريًا ينظر إلى الحياة والواقع نظرة تختلف عن نظرة أسلافه وتتجاوز رؤية المحيطين من حوله .
وقد يتبادر إلى الذهن طرح هذا السؤال: ( لم كل هذه الكتابة عن تجربة شعرية لازالت بكرًا ) ؟
من يتأمل في تجربة الشاعر الشعبي الحديث يجد أن هذه التجربة لم تأخذ حقها من الانتشار، بل إن عدداً من شعراء هذا التوجه تحولوا لكتابة القصيدة العمودية التقليدية ، وكثيرًا من هؤلاء الحداثيين لازالوا يزاوجون بين الاتجاهين في كتاباتهم الشعرية ، حيث نجد أن بعض الشعراء يكتب قصيدة حداثية ثم يكتب بعدها بوقت وجيز قصيدة تقليدية أو العكس، ومنهم من يمزج بين الاتجاهين في نص شعري واحد، وبناء على هذه المعطيات سأحاول الإجابة على هذا التساؤل، وأقول بأن هذه التجارب الحداثية لم تواكبها أعمالاً نقدية ترصدها حق الرصد، إلا بعض الكتابات التي تأتي هنا وهناك، التي لا تعدو أن تكون كتابات نادرة لا تفي بالغرض ولا تروي الظمأ أو تشفي العليل، علاوة على بعض الكتابات التي كان يتفضل بها بعض الأساتذة في الجامعات على بعض الشعراء الشعبيين ، وهي أقرب ما تكون بكتابات المجاملة وجبر الخواطر التي لا تخلو من نظرة استعلائية من قبل هذا الأستاذ، أو ذاك ، وهي حقيقة أشبه بكتابات طه حسين أو بعض المثقفين العرب الآخرين عن أعمال حسن عبدالله القرشي أو غيره من الذين كانت تقدم الكتابات عنهم , وكانت غالبها يهدف للمجاملة ودعم المواهب الصاعدة آنذاك، لهذا شمرت عن ساعدي وبدأت العمل في هذا المشروع وأمامي ثلاث غايات الأولى احترام هذه التجارب من خلال تسليط الضوء عليها لأنها قدمت مشروعًا تنويرياً في الشعر الشعبي ، والغاية الثانية حفظ هذه المرحلة والخشية عليها من الزوال أو أن تسقط من الذاكرة ويغادرها التاريخ ، والغاية الثالثة وهي غاية تخيلية أرجو أن تكون حقيقة في المستقبل، وهو بث الروح في هذا المشروع الذي تراجع، والعمل على إعادة إحيائه بعد كل هذه السنوات من الخمول ، مع العلم أن عوامل عملت على وأد المشروع الحداثي في الشعر الشعبي، وهي أمور في الغالب لا دخل للشعراء بها، لعل من أبرزها تراجع الحس القومي واندثار الحلم العربي بالوحدة والحرية لاسيما بعد أحداث غزو دولة الكويت، وما واكب هذه التداعيات وانقسام العرب إلى أقسام كان البترول الفصل في هذه المعادلة العربية الجديدة الأمر الذي جعل الخليجيين ينكفئون على خليجيتهم وينحصرون داخل أوطانهم ، علاوة على سيطرة الخطاب الديني على الشارع العربي ككل ، والشارع الخليجي خاصة، ومن المعروف أن أمثال هذه الخطابات ترفض التنوير ولا تؤمن بالحداثة وتعلي من شأن العودة إلى التقليدية، وهناك ظاهرة لا يمكن إغفالها في انحصار هذا المشروع، وهي شيوع ظاهرة العولمة والنظام العالمي الجديد الذي عمل على تفتيت الحدود السياسية بين الدول وسعى للقضاء على الخصائص القومية التي تميز الشعوب عن بعضها البعض والذي تم تصديره إلى المنطقة من خلال التدخل السافر في الدول أو الخفي أومن خلال السيطرة على منابع الاقتصاد، وما قد حصل في الصومال والعراق خير شاهد على ظاهرة العولمة والنظام العالمي الجديد ، الأمر الذي أدى إلى ظهور حركات تمانع هذا التوجه كخروج حركات المقاومة التي رفعت راية الإسلام السياسي المسلح الذي وجه بنادقه للدول في المنطقة لاعتقاده بأن هذه الأنظمة الحاكمة راضية على هذا الوضع أو حامية للمصالح الأجنبية الواقعة ضمن حدودها، بالإضافة إلى أنه حارب المستعمر الأجنبي الذي دخل بلاد المسلمين والعرب ، كما أن المواطن البسيط بعد أن رأى تآكل بعض الأنظمة السياسية في المنطقة وضياع هيبة السياسة الخارجية للدول ، وذهاب اتفاقية الدفاع العربية المشتركة إلى غير رجعة ، أمام قوة الآلة الحربية الأجنبية المتطورة الفتاكة ، لم يجد له صمام أمان يقيه من هذا الضياع إلا التمسك بالقبيلة ، لأنها الساتر الأخير في المحافظة على الهوية ، وحماية كيانه الإنساني من الضياع والتشتت وهنا قد يقول قائل : لم لازال المشروع التحديثي في القصيدة العربية الفصيحة قائمًا حتى الآن رغم هذه الرياح العاتية؟، والجواب من الإمكان اختصاره واختزاله بعد ذلك، بأن ذلك المشروع له أمد تاريخي طويل نسبيًا إذا قورن بالمشروع التحديثي في القصيدة الشعرية في المنطقة، حيث أن عمر الحداثة الشعرية في الأدب العربي تمتد لأكثر من خمسين سنة، وهذا مما مكنها من البقاء والثبات ومنحها قدرة على المقاومة بوجه هذه التحديات، علاوة على أن الحاملين لهذا المشروع الحداثي هم من أولئك النخب الثقافية ذات التوجه التنويري في المنطقة العربية، أما الشعراء الشعبيون فأغلب الغالبية منهم ، وبما فيهم أصحاب المشروع الحداثي الشعري لا يحملون هذا الفكر ، إضافة أن بعض هؤلاء المتحمسين للتطوير سواء في بينة القصيدة النبطية الداخلية أو الخارجية تخلو عن هذا المشروع أو تراجعوا عن حماستهم السابقة له في تعبير أدق ، كما أن هناك شعراء منهم أطلقوا اللحى وقصروا الملابس وتحولوا إلى النمطية الفكرية , علاوة على أن أصحاب التوجه الحداثي في الشعر العربي الفصيح كانوا يكتبون القصيدة العربية الحداثية ويمارسون التنظير لهذا التوجه الجديد , فلم يكتفوا بالشعر فقط كما هو الحال مع نازل الملائكة , ومن ثم أدونيس وغيرهما من الشعراء العرب الآخرين , وهذا ما لم نلحظه عند الشعراء الشعبيين في المنطقة .
قبل الانتهاء من هذا الكلام ، وترك القارئ مع فصول الكتاب ، لابد من التسليم بحقيقة تشابه أو تداخل مباحث هذا المشروع ، غير أن المتأمل في حقيقة هذه التقاسيم التي وزعتها بهذا الشكل ، يجد أنني قمت بتفكيك مكونات الذات الإنسانية للشاعر الشعبي الحديث ، ومن ثم قمت بالفصل بين الأجزاء والمفردات الموجودة في داخل تلك الذات، وذلك من أجل تقديم الصورة وفق خطوط ومسارات تتلاءم مع هذه الأقسام، لأن عملية العزل بين هذه المكونات مقدمة لفهم تلك الذات الخالقة لهذا العمل ، وعلى هذا الأساس تم التعامل مع الأشياء التي قمت بترتيبها وفق ما منّ به عليّ الخالق سبحانه من نعمة التقسيم والتشخيص والمقدرة على الفصل بين الأفكار والمشاعر ، معتمدًا على مسألة تكثيف المشهد المراد الحديث عنه، لهذا كانت النظرة المتعمقة لكل مشهد من المشاهد المطروحة للنقاش ، وذلك من أجل منح العمل المقدم القدر الكافي من المصداقية ، علاوة على تسليط الضوء المستحق على هذه التجارب الشعرية، وتقديمها بالصورة الفنية التي تليق بها وذلك من خلال الحفر في صحراء هذه النصوص من أجل اكتشاف العالم المخبوء خلفها.