
كنت قبل ساعات - قبل أن اتلقى أحد اشد الأخبار فتكاً بقلبي - اعمل على انهاء مادتي بالجريدة وكان من ضمن المادة نص « أغنية الولد البدوي » للراحل الكبير سليمان الفليح ، المنشورة الآن في هذه الصفحة أمامكم ، بعد أن غيّرتُ مكانها لأكون بقربها بعد أن تغير مكان شاعرها ، فأبعدته المنايا وكأنه يعيد لي صوت مالك بن الريب الصعلوك الذي طالما كتب عنه في أزمنة الشعر والحياة :
« يقولون لا تبعد و هم يدفنوني
و أين مكان البعد إلا مكانيا
غداة غدٍ يا لهف نفسي على غد
إذا أدلجوا عني و خلفت ثاويا
كنت قد تعمدت وقتها اختيار صورة اعلم أنها ستعجبه وربما تحدثنا حولها حين نلتقي ، فقد عرفنا أصغر تفاصيل روحه الطاهرة وذائقته الباهرة المسافرة في جغرافيا الحياة وتاريخها بآدابها ، وفنونها ، وجنونها ..
وبعد أن خرجت من المكتب هاتفت الصديق زايد الرويس لاتحدث معه حول موضوع ما ، فلاحظت نبرة صوته وسألته ، لاتلقى دون درع حذر ، ضربةً خاطفة من سيف الفجيعة ما اخلّ توازني لينتهك بعدها أرض روحي ليعيث ويبطش فيها كالمنتقم هكذا فجأة ، وبلا مقدمة تهيئ له الدرب ليعربد فيها .!
بالصدفة فقط علمت في موت أحد أحب الناس واقربهم وأجملهم وأنقاهم سريرة وأكثرهم نفعاً للناس فلا تكاد تعرف أحداً من بين كل من عاصروه الا واكتسى من ثياب افضاله ، أو صنائعه البيضاء ، وأفاده دون منٍّ منه ولا أذى ..
شيخ الطريقة الوائلية في مذهب «الصدر الواسع والقلب الناصع » ..
آخر الأئمة في مذهب «البدوان» الصعاليك
والسيد المطاع فيهم ..
الآمر بالحياة فيها ..
الناهي عن الموت دونها
المتقدم قبل أقواله بأفعاله
المتأخر عن جشع الجموع في جمع آماله
وقصائده
وأحلام وأحبابه وأطفاله
المتقسم في «جسومٍ كثيرةٍ»
وما قال للحياة الا : ذريني ..!
استاذنا الكبير وصديق أيامنا وأرواحنا ووالدنا الذي شرفنا بصحبته في الزمن الجميل منذ اتقدت شعلة الشعر والكتابة في مواقيد أعمارنا الصغيرة الحاملة اهدافها واحلامها الكبيرة ، فتدربت على صد الرياح الباردة فلا تنطفئ ، واعتادت على جمع وقودها من خشاش اليقين طويل الامد ، ولم نكن سنفعل هذا وحدنا بكل تأكيد ، لولا أن الله قد عطف علينا ورزقنا بعرابنا ومعلمنا وشيخ أدبنا فأحسن تعليمنا وتأديبنا برغم طيشنا وعنادنا أول الأمر لقصر نظرنا وحداثة تجربتنا ، فتحمّلنا بحنو الأب وبخبرة المربي بحبٍ وثقة ، ففتح لنا قلبه وبيته ومكتبته وذلل لنا طرق الأدب وأسفارها وأعاننا عليها بالزاد والراحلة ..
ما احلمك وما أكرمك وما اعظمك يا سليمان الفليح ..
فوالله ما رأت عيني أحداً حمل هم الآخرين أكثر منهم مثلك ، فتركض لحاجاتهم حتى تقضيها
ولا بيتُ اديبٍ تشرعت ابوابه كبيتك العامر لطلاب الادب ورواده فدخلناه آمنين مطمئنين الا من فيض روحك المرتفع فيغرقنا بالبهاء والضياء كل مرةٍ بغير اللون والطعم والصورة في مذاق الحديث الأخاذ ..
ما اطيبك وما أطيب روحك يا ابا سامي وأبا السمو والعلو والمكارم كلها ..
يها الرجل النادر وآخر «البدو الصعاليك» العظماء ، وقد أغلقت الباب خلفك على هذا «المصطلح» ، ولكننا لن نسدل بعدك الستار بل سنرفعه ما حيينا وهذا عهدنا نرفعه إليك
وسلام الله عليك سيدي الإنسان ..
«فصبرٌ جميل والله المستعان» .