
ليلة من ليالي سليمان الفليح !
في العدد الماضي من مقامات لم يكن هناك متسع من الوقت لتخصيصه كاملاً حول فقيدنا الكبير معلمنا واستاذنا « سليمان الفليح « يرحمه الله .
ولم يكن مرضياً بالنسبة لي وإن جاءت بعض صفحاته الخمس حول الحدث نفسه ، ولكنني وفي هذا العدد «الخاص » الذي اقدمه بهذا الشكل الذي ترون حاولت – نعم حاولت لا أكثر – أن أُشارك مع من شارك في موسم الوداع والتأبين الموشى بتفاصيلٍ كثيرة فقدمه كل بطريقته وإمكاناته .
فالكتابات الصحافية لأحبته وزملائه وأصدقائه لم تتوقف لليوم ، ولم تهدأ النفوس بعد وإن ظننا ، وفي شبكة التواصل الإجتماعي «تويتر» كان ولا يزال رحيله هو الحديث والحدث ، فليس غريباً – ونحن من نعرفه بقرب – أن تزداد في القلوب محبته عند من يعرفه وعند من لا يعرفه ، ولا عجب أن تعود لنا الذاكرة محملة بأجمل وأثمن ماخبأته من كنوزها في صناديقها الخشبية القديمة السميكة المصنوعة خصيصاً لمثل سليمان الفليح وقلة معه في هذه الحياة :
ها نحن في أواخر الثمانينات ، نجتمع اليوم اليوم الاثنين من كل اسبوع عنده في بيته ، نتوافد تدريجياً، فتجدنا كالطيور التي تجتمع في عشها الدافئ فنشعر بالأمان ونحن بحضرة الأب والصديق وأحد أجمل صنَاع الأدب البررة المهرة ، وأحد أهم وأبرز شعراء القصيدة الحديثة في الخليج والوطن العربي .
سليمان يتفقدنا ويسألنا عن الصغيرة والكبيرة ليطمئن علينا، ثم يقطع حديثه ويسأل عن الغائبين ويبذل جهداً – لمحدودية الاتصالات ذلك الوقت – بالوصول لأي منهم ويسألهم عن أحوالهم ويطلب منهم الحضور لأنه الليلة يريد أن يسمعنا « نصاً « جديداً ، ولأبي سامي طقوسه المعروفة عندنا حين ينتهي من كتابة قصيدة جديدة ، فإن صدف انها انتهت بعد يوم الاثنين، فإنه يجمعنا في مطعم « ليولم » لنا احتفاءً بهذه المناسبة السعيدة !
بالله عليكم هل صدفتم في حياتكم أو قرأتم عن شيءٍ مثل هذا؟ اجزم لا !
ولا نزال في يوم الاثنين وهو يدخل ويخرج ويطمئن الى أن أمنا « أم سامي » قد انتهت من تحضير العشاء لنا ولطالما فعلت لسنوات لا حصر لها هذه المرأة العظيمة وهذه الزوجة التي استطاعت احتواء واحد من اكثر الشعراء فوق الأرض فوضوية ونزقاً وكرماً وطيب معشر .
لا زال الأصدقاء يتوافدون ويصادف أن يكون عند أحدنا ضيفاً فنحضره معنا ، لأننا نعلم أنه لن يشعر بحرج ولا بغربة ولا بملل ، بل ليعيش ليلة من الليالي المميزة في حياته والتي لن تتكرر فيها كثيراً .
وبعد أن حضر أكثرنا وانتهينا من العشاء ، وأخذ وضعية القراءة يبدأ بمقدمة بسيطة كإضاءة حول النص ، فيشركنا بالدخول الى طرقاته بعد أن أعطانا المصابيح الصغيرة اذ يعلم جيداً انه يسبقنا ثقافياً وإبداعياً وصحافياً بمراحل وخبرات وتجارب متعددة ، فتكون المقدمة تلك فلا نتعثر ولا نتيه أثناء قراءة القصيدة كهذه وإن كتبت في 2008 م :
«نحن ذئاب الليل
نجوب كالأيتام في التسكع البهيج
سواحل الخليج
فتنعكس أوجهنا في الماء
تفزعنا أوجهنا الخضراء
نشرد كالوعول يُجفلنا الخيال
وحينما تعزّ في الأجاج لو قطرة من ماء
تخدعنا أزباده البيضاء
نظن أنها: يا يوسف أبولوز،
كثباننا القديمة الصفراء
يوحشنا المساء
فنرتمي إلى صدور بعضنا
لكي نمارس النشيج والبكاء.
ونفترق لنتفق على اللقاء
لربما لو مرة أخيرة على سواحل الدمام
أو شاعر المنخول في دبي
أو ربما نموت في الشام أو بيروت أو عمان
أو مدينة الجهراء
أو ربما تتبدل الأشياء فنلتقي في القدس أو رفح
وحينها نغني «الميجانا»
وترقص الصحراء»
فتنقضي ليلتنا على بدايةٍ جديدة ، على استفزازه لنا بالشعر الذي يكتبه ونكون أول من سمعه ، بالإقبال على الحياة بحمأة إدبارها ، بالثقة في الشعر حين علمنا كيف نعوّل عليه ليكون سنداً لا مستندات ، أن نحب بقدر استطاعة قلبوبنا ، أن نفرح ما أمكننا الوقت ، أن نصمد حتى اللحظة الأخيرة ، أن نتغافل عن الشخصنة فلا تلهينا، فأهداف الشاعر أبعد وأنبل وأسمى من أن تكون علاقات شخصية واجتماعية ، اذ كان يراها علاقة سلام مع الكون فكانت أحد أعظم دروس سليمان الفليح لجيلنا .
هو الشاعر الوحيد الذي عرفته في هذه الحياة - ومسفر الدوسري كذلك – من يعرف معنى أن تكون شاعراً وبالمسؤولية التي تقع عليك بعدها .
« تصبح على الف خير يابو سامي »
ثم امضي لبيتي بعد أن كبرت الليلة ككل ليلة اثنين من كل اسبوع .
فهد دوحان