ما زالت فرقة من المثقفين تعزف النغمات النشاز التي لا يستوعبها سلم موسيقى التنوير والنهوض بالوعي الجمعي من خلال الحوار الوطني وتعددية الأطياف وعلى الرغم من أطروحاتهم الداعمة للحقوق والحريات وكتاباتهم اللاهثة إلى ركاب العالم الأول إلا أننا مع تكرار حفلات الفرقة تحوّل شعورنا العميق بالشفقة تجاههم في بداية الأمر إلى الاقتناع بأن أقسى عقوبة يمكن أن تنزل بأحد أولئك إطلاقه إلى حياة ثقافية تستوعب غيره لتسقط كل شعاراته النخبوية المرفوعة منكسة الرؤوس!!
ومن الأمور التي تدعو للأسف وتؤكد خذلان المثقفين للمجتمع الذي يفترض أن يقودوا نهضته ويدفعوا به إلى الصعود حينما تم الانتقال من مرحلة التعيين إلى مرحلة الانتخابات في الأندية الأدبية وبدأ مخاض ثقافي ديمقراطي لا يخلو من عوارض مزعجة ولكنها طبيعية نكصوا على أعقابهم مطالبين بالديكتاتورية الثقافية مرة أخرى!! فهؤلاء نوع من مثقفي الشكليات والشعارات الورقية الذين لم يستوعبوا ما قاله هربرت بريتسكه «الحياة الخالية من القلق ليست بديلاً مناسباً للحرية الحقيقية» لكن يبدو الأمر كما قال صاحبنا الجرماني أيضاً: «أن الحياة بلا حرية تجعل الشخص غير قادر على حياة الحرية»!
حين تعيش الثقافة انفصاماتها الفنتازية بين أقوالها وأفعالها أو بين نظرياتها وتطبيقاتها فلا عجب حين يطالب مثقفون ما بالديكتاتورية الثقافية والاستبداد الفكري وهم بذلك يحاولون تجهيل المجتمع وإعادته للخلف بأطروحات واهمة واهنة لا تعلم عن تاريخ البلد وعلاقاته المتجذرة مع بعض الممارسات الديمقراطية وخاصة العمود الفقري لها (الانتخابات) التي كانت موجودة في بلادنا قبل سنوات من إعلان توحيد المملكة العربية السعودية عام 1351هـ/1932م موجودة قبل البترول وقبل السيارات وقبل الطيارات!!نعم كانت موجودة ونحن نسكن الحجر والطين ونركب الناقة والبعير!! كان لدينا انتخابات لمجلس الشورى وانتخابات لأرباب المهن والحرف وانتخابات للمجالس البلدية والإدارية والتجارية بل كان هناك انتخابات لأمراء البلدان وشيوخ القبائل ولو شاءوا لسقنا لهم براهين ووثائق الحقيقة التي يجهلونها من سجلات التاريخ الذي لم يقرأوه !! فما بال أولئك يتحدثون وكأن الشعب السعودي أدنى شعوب الأرض تفكيراً وأقلهم وعياً؟!! ما بالهم يصفونه بالجهل والتخلف؟! ما بالهم يقولون التنمية قبل الديمقراطية والديمقراطية إنما انبثقت في بلادنا قبل تدفق النفط الذي كان سبباً رئيساً في تنمية هذا الوطن الممتد أصالة ونبلاً ومعرفة ونضجاً من البحر إلى البحر ومن الرمل إلى الرمل!!ألا يعلمون أن مؤسسات المجتمع المدني ولدت في بلادنا قبل أن يعرف هؤلاء فنادق السبع أو لعلها التسع نجوم بحوالي قرن من الزمان؟!بل ساهمت هذه المؤسسات في دفع عجلة التنمية هل يعرفون هؤلاء شيئاً عن نشأة ودور جمعية الهلال الأحمر أو جمعية الطيران وغيرها من الجمعيات !!
نحن أمام قوم يتحدثون عن الأدلجة وهم مؤدلجون ، يتحدثون عن الحرية وهم لها يصادرون، يتحدثون عن الحوار وهم يخاورون ، يستنكرون التحريض ويمارسونه، ويبيعون الهراء ويشترونه، كل فصيل غير فصيلهم متعجرف، وكل تيارٍ في غير اتجاههم متطرف.... فعن أي ثقافة ومثقفون نتحدث وهم يتنادون بالديكتاتورية والاستبداد الثقافي لأن الانتخابات كممارسة ديمقراطية لم تأت كيفما يشتهون لأنهم لا يرونها سلماً للمشاركة والعدالة والمساواة إلا إذا أتت بهم ...كمالا يرون القضاء نزيهاً إلا إذا حكم لصالحهم....ولا يرون النظام جميلاً إلا إذا أقر مخالفاتهم ... بعض المثقفين لدينا لا يكتب رأيه باستقلال ولا يتخذ موقفه بحيادية ليس لأن هناك من يمنع استقلاله الفكري أو يضغط عليه للتعبير بوجهة نظر أخرى أو لاتخاذ موقف محدد أبداً لكنه أصبح مطية ثقافية تحمل على ظهرها قناعات غيرها لتحقيق مكتسبات مؤقتة ورخيصة!! تجلس معه اليوم فيقول كلاماً يعبر عن قناعاته الشخصية ولكنه غداً يكتب مقالاً يركب به موجة الرضا بعيداً عن جمر الغضا هكذا تسير الأمور بكل بساطة!! انتخابات الأندية الأدبية الأخيرة شاب الجدل بعض أحداثها وضج الحديث حول ملابساتها فهي تشبه حكايات ألف ليلة وليلة فالتكنولوجيا قصّت علينا قصص شهرزاد في كل ناد فتحقق المراد ولكن الخبايا في الزوايا والأسرار خلف الستار فشكى من شكى وبكى من بكىعندما غابت الشفافية وعتمت الرؤية !! وإقرار الانتخابات كخطوة حضارية في مؤسسة ثقافية مستقلة لا تعني أن تشرف عليها جهة حكومية وتديرها لتخرج النتائج بقدرة قادر محاصصة بين الأطياف نوعاً وجنساً! ولذا فيجب أن تكون الانتخابات القادمة تحت رقابة جهات أخرى وفي ظل العدد العشراتي للجمعيات العمومية للأندية الأدبية فالابتعاد عن أدوات مثيرة للارتياب أولى من استخدامها!!
أما من يرى استخدام الديكتاتورية خياراً ثقافياً ، فمن باب أولى أنه من ممارسيها وبالتالي فهو لن يرى لغيره رأياً ولا حقاً ولا حرية لأنه سيحتكرها لنفسه ثم يوزعها كيف يشاء!! ولنقارن موقفه بموقف الغذامي الذي قاطع الأندية الأدبية بسبب إلغاء الانتخابات لأنه يعتبر ذلك نكوصاً ثقافياً ثم بارك عودة الانتخابات لأن عودته كانت مرتبطة بعودتها نحن هنا نميّز بين المثقف الحقيقي الذي يجبرك على احترامه لارتباطه بمبادئ تحدد مواقفه والمثقف الوهمي الذي يجبرك على تمزيق أوراقه الخالية!!