البرامكة
أسرة البرامكة: تنسب هذه الأسرة إلى جدها برمك وهو من مجوس بلخ، وكان يخدم النوبهار، وهو معبد كان للمجوس بمدينة بلخ توقد فيه النيران، فكان برمك وبنوه سدنة له، وكان برمك عظيم المقدار عندهم. ولما جاءت الدعوة العباسية غلى خراسان، كان خالد بن برمك من اكبر دعاتها، وكان ذا صفات عالية أهلته للسيادة والرفعة حتى استوزره أبو العباس السفاح، فكان مدبر أمره، وتوفى في خلافة المهدي عام 163هـ، فجاء بعد خالد بن برمك ابنه يحيى ، وكان واحد الدنيا علمًا وأدبًا وفضلاً ونبلاً وجودًا، وقام يحيى بتربية هارون الرشيد، وكان يدبر أمره هارون يناديه (بيا أبي)، وبذلك لأن زوجة يحيى أم الفضل قد أرضعت هارون بلبان ابنها الفضل، لما أراد الهادي أن يولي ابنه الصغير ولاية العهد بدلاً من أخيه الرشيد رفض يحيى ذلك قال للهادي: أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو لم يبلغ الحلم ويرضون به.
أسباب النكبة
اولع المؤرخون بذكر نكبة البرامكة وأجهدوا قرائحهم في تعرف أسباب إيقاع الرشيد بهم ومن هذه التفسيرات: يذكر المؤرخون: أن يحيى بن عبد الله قد خرج على الرشيد في بلاد الديلم عام 176هـ، فأمر الرشيد الفضل بن يحيى بالتعامل مع يحيى والقضاء على حركته، فاستمال الفضل بن يحيى بن عبد الله مرة بالتهديد ومرة بالترغيب حتى يحيى بن عبد الله إلى العراق فأكرمه الرشيد، ولكن بعد فترة تخوف الرشيد من أمر يحيى بن عبد الله، فدفعه الرشيد إلى جعفر بن يحيى البرمكي حتى يحبسه ويتولى حراسته، وفي ليلة من الليالي دعا جعفر يحيى بن عبد الله، فسأله عن شئ من أمره فأجابه إلى أن قال: اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون خصمك غدًا محمد صلى الله عليه وسلم فو الله ما أحدثت حدثًا ولا آويت محدثًا، فرق عليه جعفر وقال: اذهب حيث شئت من بلاد الله. قال يحيى: وكيف اذهب ولا آمن أن أوجد بعد قليل فأرد إليك أو إلى غيرك ؟ فوجه معه من أداه إلى مأمنه، وبلغ الخبر الفضل بن الربيع بن يونس (كان حاجب الرشيد) وبلغه عن طريق عين كانت له عليه من خاصة خدمة، فعلم الأمر فوجده حقًا، فدخل على الرشيد فأخبره الخبر، وجاء جعفر، فأمر الرشيد بالطعام، فأكلا، فلما فرغا من الطعام، قال الرشيد: ما فعل يحيى بن عبد الله ؟ قال جعفر: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والغلال، قال الرشيد: بحياتي.. فأحجم جعفر: وكان من أدق الخلق ذهنًا، وأصحهم فكرًا، فقال: لا وحياتك يا سيدي، ولكن اطلقته،لما رأيت أنه لا مكروه لديه، فقال الرشيد: نعمًا فعلت، فلما خرج جعفر تبعه الرشيد ببصره ، ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك.. وما كاد جعفر البرمكي ينصرف حتى بعث هارون وراءه كبير خدمه، واسمه مسرور وأمره أن يضرب عنق جعفر ففعل ذلك، وأمر في الحال بالقبض على يحيى بن خالد البرمكي وأولاده الباقين وجميع أفراد أسرته، وصادر أموالهم كلها.
السبب الثاني: زواج جعفر بالعباسة أخت الرشيد:
كان الرشيد لا يصبر على فراق جعفر والبعد عنه، إذ كان يحبه جدًا ، وفي الوقت نفسه كان يحب أخته العباسة بنت المهدي، حيث كانت على شئ من الأدب والرأي والحكمة، فكان لذلك يحب أن يحضر جعفر والعباسة مجلسه، ولما كان جعفر لا يحق له أن يرى العباسة أخت الرشيد، إذ أنه أجنبي عنها لذا قال له الرشيد : ازوجكها ليحل لك النظر إليه إذا حضرت مجلسي على ألا تمسها، ولا يكون منك شئ مما يكون للرجل إلى زوجته، فزوجها منه على ذلك، ولكن جعفر والعباسة شابان، وجرت خلوات بينهما وحملت العباسة وولدت غلامًا فخافت على نفسها من أخيها، فبعثت الوليد على مكة مع بعض خدمها، حتى وقع خلاف بين العباسة وبين بعض خواريجها، فأعلمت الجارية الرشيد بما حدث، فلما حج عام 186هـ، تتبع أمر الوليد وتيقن منه، فاشتاط غضب الرشيد وأحس بأن جعفر قد خانه، فقرر أن يتخلص من البرامكة.
سطوع نجم البرامكة واستبدادهم بالأموال
يحب الملك أن يكون ذا السلطان الذي لا يشارك، والحول الذي لا يقاوم، واليد الطولى التي لا تعارضها يد، وكثير من الرجال لذي يقومون بالعمل معهم وتأييد سلطانهم كثير منهم لا يقف عند حد الانتفاع بتلك السابقة لهم، فلا يزالون يرتفعون حتى تتنبه إليهم أفكار الخلفاء بما يلقيه إليهم الحاسدون والواشون من تعظيم سلطانهم على سلطانه، واشتداد وطأتهم، فتتبدل مزاياهم إلى عيوب، وحينئذ يرى السلطان أنه لا مناص من الإيقاع بهم وهذا ما حدث مع البرامكة بعدما علا شأنهم يقول الشاعر:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة
فلما ولى هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذي الندى
فهارون زاليها ويحيى وزيرها
الترف الشديد:
كان البرامكة يعيشون في ترف شديد جدًا، حتى أنهم كانوا يبنون قصورهم ويضعون على الحوائط بلاط الذهب والفضة، وبنى جعفر بيتًا له كلفه عشرين مليون درهم، وكان الرشيد في سفر ذات يوم، فلم يمر على قصر ولا إقليم ولا قرية إلا قيل له: هذا لجعفر، وعندما عاد الفضل من حربه في الديلم أطلق لمادحيه ثلاثة مليون درهم. وهذا السرف جعل الرشيد يتابعهم في الدوواوين والكتابات، فأكتشف وجود خلل كبير في مصاريف الدولة ومن عجيب ما يذكر في أسباب نكبة البرامكة أن يحيى بن خالد كان يحج ذات مرة، فوقف عند باب الكعبة ودعا قائلاً: <الهم إن كان يرضيك عني سلب جميع مالي وولدي وأهلي فافعل ذلك فكان الأمر كما دعا هو بنفسه، والله أعلم بالعاقبة.
نفوذ البرامكة وسقوطهم « نكبة البرامكة »
وتعاظم نفوذ البرامكة في عهد هارون الرشيد ،لدرجة أن بعض حاشية الخليفة بدأت تضمر لهم شرا، واحتدم الصراع بين البرمكيين وخصومهم إلى أن تمكن خصوم البرامكة بعد حشد كل طاقاتهم من اقناع الخليفة بالتخلص منهم، ولقد سمم البرامكة موسى بن جعفر الكاظم بعد رحلة لهارون الرشيد الذين قد وشوا وفتنوا على موسى بانه يريد الانقلاب عليه، بكى هارون على ابن عمه وعرف هارون مخطط البرامكة ، فقد كان ذكيا، ويعرف نفوذ البرامكة في الدولة، وأدرك أن التخلص منهم ليس بالأمر السهل، وقرر في سنة (803 م) القبض على جميع أفراد العائلة البرمكية، وصادر أموالهم وممتلكاتهم، وشرد بعضهم، وقتل البعض، بينما دخل الكثيرون منهم إلى السجون، وهكذا في غضون ساعات انتهت أسطورة البرامكة وانتهت سلطتهم داخل الدولة العباسية، وسميت معركة الرشيد ضدهم ب « نكبة البرامكة ، والأقرب إلى الواقع أن نكبة البرامكة ترجع إلى حد كبير إلى ذلك الصراع الخفي الذي كان قائما بين حزبي العرب والعجم والذي ظل مستمرا بعد ذلك أيام الأمين والمأمون. وفي عهد الرشيد يظهر الصراع بين العرب والعجم بوضوح حينما عهد إلى ابنه الأمين بولاية العهد من بعده سنة 175 هـ وذلك تحت تأثير الحزب العربي الممثل في زوجته زبيدة بنت جعفر وحاجبه الفضل بن الربيع, وكان الأمين في الخامسة من عمره مما يدل على أنها كانت لها دلالة خاصة وهي ضمان الخلافة للعصبية العربية ولم يرض الجانب الفارسي وعلى رأسه البرامكة بهذا الوضع فأخذوا يسعون لدى الرشيد حتى نجحوا في جعله يعهد إلى ولده المأمون بولاية العهد بعد الأمين سنة 182 هـ على أن يتولى المأمون ولاية المشرق بعد وفاة أبيه بمعنى أن خلافة الأمين بعد وفاة والده تصبح على بلاد المشرق خلافة صورية والمعروف أن المأمون كان من أم فارسية ولهذا أيده البرامكة.
وفي سنة 186 هـ حج الرشيد ومعه ابناؤه الأمين والمأمون وهناك في البيت الحرام (أي الكعبة) أخذ عليهما المواثيق المؤكدة بأن يخلص كل منهما لأخيه وأن يترك الأمين للمأمون كل ما عهد اليه من بلاد المشرق، ثغورها وكورها وجندها وخراجها وبيوت أموالها وصدقاتها وعشورها وبريدها، وسجل الرشيد هذه المواثيق على شكل مراسيم وعلقها في الكعبة لتزيد في قدسيتها، ويؤكد تنفيذها كما كتب منشورا عاما بهذا المعنى للآفاق، وبذلك ضمن العرب الخلافة للعربي النسب والعجم بزعامة البرامكة ضمنوا الشرق لرجل أخواله عجم.
سؤال في السجن
وقال له بعض ابناء يحيى له وهم في السجن والقيود: يا أبت ! بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال.
فقال: يا بني .. لعلها دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون ولم يغفل الله عنها.
ثم أنشأ يقول:
رب قوم قد غدوا في نعمة
زمنا والدهر ريان غدق
سكت الدهر زمانا عنهم
ثم أبكاهم دماً حين نطق
يحيى ودعاء سفيان
وقد كان يحيى بن خالد هذا يجري على العالم الجليل سفيان بن عيينة كل شهر ألف درهم، وكان سفيان يدعو له سجوده يقول: اللهم إنه قد كفاني المؤنة وفرغني للعبادة فاكفه أمر آخرته ، فلما مات يحيى رآه بعض أصحابه في المنام فقال: ما فعل الله بك؟
قال: غفر لي بدعاء سفيان .. وروى الخطيب البغدادي بإسناده: أن سفيان بن عيينة لما بلغه قتل الرشيد جعفرا وما أحل بالبرامكة، استقبل القبلة وقال: اللهم إن جعفرا كان قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤنة الآخرة ، وقد كان وفاة يحيى بن خالد رحمه الله في الحبس في الرافقة عن سبعين سنة، وصلى عليه ابنه الفضل، ودفن على شط الفرات، وقد وجد في جيبه رقعة مكتوب فيها بخطه: قد تقدم الخصم والمدعى عليه بالأثر، والحاكم الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى بيِّنة ، فحملت إلى الرشيد فلما قرأها بكى يومه ذلك، وبقي أياما يتبين الأسى في وجهه.
وقد قال بعض الشعراء في يحيى بن خالد:
سألت الندى هل أنت حر فقال لا
ولكنني عبد ليحيى بن خالد
فقلت شراء قال لا بل وراثة
توارث رقي والد بعد والد
جعفر بن يحيى
وكان جعفر ليلة في سمره عند بعض أصحابه، فجاءت الخنفساء فركبت ثياب الرجل فألقاها عنه جعفر، وقال: إن الناس يقولون: من قصدته الخنفساء يبشر بمال يصيبه، فأمر له جعفر بألف دينار ثم عادت الخنفساء، فرجعت إلى الرجل فأمر له بألف دينار أخرى ، وحج مرة مع الرشيد فلما كانوا بالمدينة قال لرجل من أصحابه: انظر جارية اشتريها تكون فائقة في الجمال والغناء والدعابة، ففتش الرجل فوجد جارية على النعت فطلب سيدها فيها مالا كثيرا على أن يراها جعفر، فذهب جعفر إلى منزل سيدها فلما رآها أعجب بها، فلما غنته أعجبته أكثر، فساومه صاحبها فيها ، فقال له جعفر: قد أحضرنا مالا فإن أعجبك وإلا زدناك ، فقال لها سيدها: إني كنت في نعمة وكنت عندي في غاية السرور، وإنه قد انقبض علي حالي، وإني قد أحببت أن أبيعك لهذا الملك، لكي تكوني عنده كما كنت عندي.
فقالت له الجارية: والله يا سيدي لو ملكت منك كما ملكت مني لم أبعك بالدنيا وما فيها، وأين ما كنت عاهدتني أن لا تبيعني ولا تأكل من ثمني ، فقال سيدها لجعفر وأصحابه: أشهدكم أنها حرة لوجه الله، وأني قد تزوجتها.
فلما قال ذلك نهض جعفر وقام أصحابه وأمروا الحمال أن يحمل المال.
فقال جعفر: والله لا يتبعني.
وقال للرجل: قد ملكتك هذا المال فأنفقه على أهلك، وذهب وتركه.
وحكى إسحاق النديم أيضاً قال: كانت صلات يحيى بن خالد إذا ركب لمن تعرض له مائتي درهم، فركب ذات يوم فتعرض لد أديب شاعر وأنشده:
يا سمي الحصور يحيى أتيحت لك من فضـل ربنا جنـتـــان
كل من مر في الطريق عليــكـــــم فله من نوالـكـم مـائتــــــان
مائتا درهـــــم لمثـلــــــي قـلـيــــل هي منكم للقابس العجـلان
قال له يحيى: صدقت، وأمر بحمله إلى داره، فلما رجع من دار الخلافة سأله عن حاله، فذكر أنه تزوج وقد أخذ بواحدة من ثلاث: إما أن يؤدي المهر وهو أربعة آلاف، وإما أن يطلق، وإما أن يقيم جارياً للمرأة يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها، فأمر يحيى بأربعة آلاف للمهر، وبأربعة آلاف لثمن منزل، وبأربعة آلاف لما يحتاج إليه المنزل، وبأربعة آلاف للبنية، وبأربعة آلاف يستظهر بها، فأخذ عشرين ألفاً وانصرف.
- وكان ليحيى كاتب يختص بخدمته ويقرب من حضرته، فعزم على ختان ولده، فاحتفل له الناس على طبقاتهم، وهاداه أعيان الدولة ووجوه الكتاب والرؤساء على اختلاف منازلهم، وكان له صديق قد اختلت أحواله وضاقت يده عما يريده مما دخل فيه غيره، فعمد إلى كيسين كبيرين نظيفين، فجعل في أحدهما ملحاً وفي الآخر أشناناً مكفراً، وكتب معهما رقعة نسختها: لو تمت الإرادة لأسعفت بالعادة، ولو ساعدت المكنة على بلوغ الهمة لاتبعت السابقين إلى برّك وتقدمت المجتهدين في كرامتك، لكن قعدت القدرة عن البغية وقصرت الجدة عن مباراة أهل النعمة، وخفت أن تطوى صحائف البر وليس لي فيها ذكر، فأنفذت المبتدأ بيمنه وبركته والمختتم بطيبه ونظافته، صابراً على ألم التقصير، ومتجرعاً غصص الاقتصار على اليسير، فأما ما لم أجد إليه السبيل في قضاء حقك فالقائم فيه بعذري قول الله عز وجل «ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج» «التوبة « ، والسلام.
فلما حضر يحيى بن خالد الوليمة عرض عليه كاتبه الهدايا جميعها، حتى الكيسين والرقعة فاستظرفها، وأمر أن يملأ الكيسان مالاً ويردا عليه، فكان ذلك أربعة آلاف دينار.
العباديون في اشبيلية
عاشت إشبيلية في عهد ملوك الطوائف تحت حكم بني عباد الذين أعقبوا بني جهور، وكان أول من تولى الحكم منهم إسماعيل بن عباد اللخمي الذي اختاره أهل إشبيلية بالإجماع لحصافة عقله، وعلو همته، وحسن تدبيره، ثم خلفه ابنه المعتضد فسار على نهج أبيه في الإصلاح، ونشر العدل، ولكنه استبد وحده في الأمور، وكان صارماً، قاسياً، شديد الدهاء، نكل بوزرائه واحداً بعد الآخر، فمنهم من أماته صبراً، ومنهم من أماته خمولاً وفقراً، ومنهم من شرده ونفاه عن البلاد، وظل كذلك حتى توفي عام 464 هـ.
وقام بالأمر بعده على إشبيلية ابنه أبو القاسم المعتمد بن عباد الذي كانت حياته كرماً وأدباً وملهاة انتهت بمأساة مفجعة، كأكثر الملوك والنبلاء الذين ينغمسون في المجون، ويغرقون في الترف والنعيم إلى أذانهم دون أن يحصنوا ملكهم بما يحتاج من قوة ومن إعداد وإحكام.
تولى الملك عام 464هـ ، وعمره سبع وثلاثون سنة، فجمع حوله الأدباء والشعراء، وراح يوزع عليهم الهبات، ويغدق العطاءات السخية، فاجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك الأندلس، وكان هو نفسه شاعراً مجيداً، فآلى على نفسه ألا يستوزر وزيراً إلا إذا كان أديباً شاعراً، حسن الأدوات، ولذلك استوزر ابن زيدون، فاستطاع بمساعدته أن يخضع قرطبة لسلطانه، ويخلع عن عرشها ابن جهود، كذلك استوزر ابن عمار، وهو أحد الشعراء المجيدين، فصادقه وجعله من خاصة أصفيائه، وكان من جملة شعرائه أيضاً ابن وهبون المرسي، قربه لجودة شعره، بعد أن سمع قوله:
قل الوفاء فما تلقاه في أحد
ولا يمر لمخلوق على بال
وصار عندهم عنقاء مغربة
أو مثل ما حدّثوا عن ألف مثقال
كان ابن عباد شاعراً رقيق الشعر، أنيس المجلس، يحب الشعراء ويرعاهم، نظم الشعر في غرامياته وفروسيته وحروبه، وبعد مأساته التي جاءت على يد يوسف بن تاشفين، أمير المرابطين في المغرب، ومن جيد قوله:
علل فؤادك قد أبلّ عليل
وأغنم حياتك فالبقاء قليل
لو أن عمرك ألف عام كامل
ما كان حقاً أن يقال طويل
أكذا يقود بك الأسى نحو الردى
والعود عود والشَمول شَمول
لا يستبيح الهم نفسك عنوة
والكأس سيف في يديك صقيل
بالعقل تزدحم الهموم على الحشا
فالعقل عندي أن تزول عقول
وبينما هو يوماً في قبة له يكتب أو يطالع، وعنده بعض كرائمه، دخلت عليه الشمس من بعض الكوى الكائنة فيها، فقامت جارية دونه تستره من الشمس فقال:
قامت لتحجب ضوء الشمس قامتها
عن ناظري، حُجبت عن ناظرِ الغيرِ
علماً لعَمرُكَ منها أنها قمر
هل تحجب الشمسَ إلا غرةُ القمرِ؟
وكانت جارية من كرائمه قائمة على رأسه تسقيه، والكأس في يدها، إذ لمع البرق، فأرتاعت فقال:
ريعت من البرق وفي كفها
برق من القهوة لماع
يا ليت شعري وهي شمس الضحى
كيف من الأنوار ترتاع
كانت حياة المعتمد عجيبة حقاً، منذ أن كان أميراً وعاملاً لأبيه على «شلب» وحاكماً على إقليم الجوف البرتغالي كله، وهناك طابت له الأيام في صحبة صديقه الحميم أبي بكر بن عمار الذي عاد فحقد عليه، ثم غدر به بعد أن استوزره، لأنه قال:
مما يزهدني في أرض أندلس
أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
عندما اعتلى المعتمد عرش أبيه، تلألأت الأنوار في صفحة الوادي الكبير، وفاضت بالموسيقى جوانب قصوره البيضاء، ثم تزوج من جارية تدعى «الرميكية» استطاعت أن تجيز شطر بيت ارتجله، وكان قد سأل صاحبه ابن عمار ليجيزه، فارتج عليه، فأجازته هي على البديهة، وهي تغسل في النهر، على مقربة من «فحص الفضة». وعندما جمحت بها إحدى نزواتها، فتمنت لو سارت في الطين برجليها، نشر لها الكافور والعنبر على الحصباء، وصنع لها منهما طيناً، ويقال إنها هي التي أغرت المعتمد بقتل ابن عمار لما هجاه بقصيدة ذكرها فيها بقوله:
تخيرتها من بنات الهجان
رميكية ما تساوي عقالا
فجاءت بكل قصير العذار
لئيم النجارين: عما وخالا
قصار القدود ولكنهم
أقاموا عليها قروناً طوالا
بدأت مأساة المعتمد عندما هاجم «ألفونسو السادس» ملك قشتالة مدينة إشبيلية، وكاد يستولي عليها، فاستنجد المعتمد بيوسف بن تاشفين أمير المرابطين في المغرب، فاجتاز البحر على رأس جيش جرار، ودحر ألفونسو في معركة «الزلاقة» التي انتصر فيها انتصاراً ساحقاً عام 479ه 1086م، ثم عاد ابن تاشفين بجيشه إلى المغرب، تاركاً المعتمد في إشبيلية يوالي حياة الترف والبذخ واللهو والمجون ، لكن ابن تاشفين عاد بعد سنتين إلى الأندلس واستولى عليها كلها، وأنهى دولة بني عباد لإزالة دول الطوائف بعد أن استشرى فسادها وتهاونها، وأخذ المعتمد أسيراً مع أسرته وأرسله مكبلاً بالقيود إلى طنجة، ثم إلى مراكش، فسجن «أغمات» عند سفوح جبال الأطلس، حيث راح هناك يسترجع صور قصوره الإشبيلية، وما كان يزينها من شجر الزيتون، مترجماً بشعره كل لحظة من حياته السالفة، ونادباً حظه حتى وافاه أجله عام 488ه، في دور اتخذت له من الطين تحت أغصان النخيل، بعد أن حكم عشرين عاماً.
مصير بثينة بنت المعتمد بن عباد
عندما دخل جيش ابن تاشفين قصر المعتمد، هربت بثينة فأُسرت، وقيل إنها أسرت قبل هروبها، وظنّ أهلها أنّها قُتلت في أثناء هجوم العسكر على القصر، وقد بيعت في سوق النّخّاسين ولا أحد يعلم هوّيتها... فاشتراها أحد تـجّار إشبيلية على أنّها جارية سرّيّة، وقدّمها هديّة لابنه، وحاول هذا الشّاب الاقتراب منها، لكنّها صدّته وأخبرته بنسبها، وأنّه لا يجوز له معاشرتها إلاّ بعقد زواج لأنّها مسلمة فلا يجري عليها حكم الإماء، وطلبت منه أخذ الإذن من أبيها للموافقة على الزّواج، فكان لها ما أرادت، فكتبت كتاباً بخطّها وطلبت إرساله إلى أبيها في أغمات، وجاء في رسالتها:
اسـْـمَعْ كَلامي وَاسْـتَمِعْ لِمَقـالتي
فَهـيَ السُّـلوكُ بَـدَتْ مِنَ الأَجْيادِ
لا تُنْكِــروا أَنّي سُبيتُ وَأنَّني
بِنْتٌ لِمَلِكٍ مِــن بَنــي عَبـادِ
ملكٌ عَظيمٌ قَـدْ تَـوَلّى عَصْـرُهُ
وَكَذا الزَّمانُ يَؤولُ لِلإِفْسادِ
لَمّا أَرادَ اللهُ فُرْقةَ شمْلِنا
وَأَذاقَنا طَعْـمَ الأَسى عَـنْ زادِ
قـامَ النِّفاقُ عَـلى أَبي في مُلْكِهِ
فَدَنا الفِـراقُ، وَلَـمْ يَكُنْ بِمُـرادِ
فَخَرَجْـتُ هارِبَةً فَحازَني امْـرُؤٌ
لَـمْ يَـأْتِ فـي إِعْجالِـهِ بِسَـدادِ
فلمّا وصل كتابها إلى أبيها، سرّ هو وأمّها بنجاتها من الموت، فأرسل لها جواباً يطيّب فيه خاطرها، ويأذن لها بالزوّاج، وأشهد على نفسه بعقد زواجها من الشّاب، رداً لمكانتها ومقامها.
قصة الطين من القصص الشهيرة الواقعة في العصر الأندلسي وهي أن اعتماد الرميكية زوجة الملك المعتمد بن عباد, رأت أناس يمشون في الطين يكدحون في هذه الحياة من أجل لقمة العيش فاشتهت زوجة الملك ان تمشي في الطين فقال لها زوجها المعتمد: لك ذلك ، فأمر الخدم بسكب ماء الورد وأخلاط الطيب, وعجنوها حتى صارت كالطين , ثم قال لها: خوضي، فخاضت ومعها جواريها.
وفي يوم من الأيام غاضبها فأقسمت وقالت : ( لم أر منك خيرا قط )
فقال : ولا يوم الطين ؟!
فاستحت واعتذرت له . وقد قال «المقري» معلقا على هذا الموقف بقوله: هذا مصداق لقول نبينا – صلى الله عليه وسلم – في حق النساء: «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط «.
ولما قدر الله أن يتعرض المعتمد بن عباد في آخر أيامه إلى النكبات والاطاحة بملكه وأصبح مقيدا في الأغلال وأودع السجن في بلدة أغمات في مراكش وفي أول عيد يمر عليه وهو في السجن وقد أفطرعلى تمرات ودخلن عليه بناته يبكين مما حل بهن من مصيبة وقد اشتغلن بالغزل كي يقوين على الحياة وشظف الغيش قال ذاكرا حادثة الطين :
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
وكان عيدك باللذات معمورا
وكنت تحسب أن العيد مسعدة
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً
في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا
معاشهنّ بعيد العزّ ممتهنٌ
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعةً
عيونهنّ فعاد القلب موتورا
قد أُغمضت بعد أن كانت مفتّرةً
أبصارهنّ حسيراتٍ مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافيةً
تشكو فراق حذاءٍ كان موفورا
قد لوّثت بيد الأقذاء واتسخت
كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
لا خدّ إلا ويشكو الجدب ظاهره
وقبل كان بماء الورد مغمورا
لكنه بسيول الحزن مُخترقٌ
وليس إلا مع الأنفاس ممطورا
فطرت في العيد لا عادت إساءتُه
ولست يا عيدُ مني اليوم معذورا
كنت تحسب أن الفطر مُبتَهَجٌ
فعاد فطرك للأكباد تفطيرا
تمني الموت
كما صار يشتهي الموت في أواخر أيامه، ويفضله على حياة الذل والأسر والقهر، فكيف يرغب في العيش من يرى بناته عاريات حافيات الأقدام، بعد أن كن يرفلن بالحرير والدمقس فقال:
دعا لي بالبقاء وكيف يهوى
أسير أن يطول به البقاء؟
أليس الموت أروح من حياة
يطول على الأسير بها الشقاء؟
أأرغب أن أعيش أرى بناتي
عواريَ، قد أضر بها الحفاء؟
وتعد القصائد التي قالها المعتمد بن عباد في منفاه، وهو في «أغمات»، وصوّر فيها مرارات السجن وآلام النفي والتي يذكرنا فيها بروميات أبي فراس الحمداني، من روائع الشعر العالمي، وعلى هذه الصورة المؤسية الحزينة انتهت حياة المعتمد بن عباد الشاعر الملك، وحياة أولاده وأحفاده: من القصور المنيفة في إشبيلية، إلى بيوت الطين وسعف النخيل في أغمات، من التاج المرصع بالجوهر والياقوت، إلى السلاسل الحديدية الثقيلة التي تقيده ولا يستطيع لها جراً، ولا شك أن حياة اللهو والاستهتار التي انغمسوا فيها كانت أكبر عامل في تهديم مجد العرب وزوالهم عن الأندلس بعد ثمانية قرون هي بحق من أزهى ما عرفت الحضارة الإنسانية.