النافذة الأولى : التشخيص الخارجي
تبدو ملامح الارتباك بادية على النص , وهو ارتباك ظاهري يرتبط بموسيقاه الخارجية , ولهل هذا الارتباك الناجم حول التجديد مرده عائد إلى التشويش الحاصل في علاقة الشاعر بالشاعر , وارتباط الذاكرة بزحمة الفراغ الموجودة فيه , حيث تتنازعه رغبة الحداثة وثقل النمطية , ومن جهة أخرى سيطرة الميل للكتابة النمطية , إذ من المعتاد في الغالب , وكما لاحظته في العديد من الكتابات أن يتم تطعيم النص الحداثي ببعض الصيغ الكتابية التقليدية , غير أن الشاعر في هذا النص قام بتطعيم النص التقليدي بقبس حداثي فصل فيه المقطعين التقليديين , وهذا ما اتضح في المقطع الذي فصل القصيدة وشطرها إلى نصفين , وقد يكون النص قصيدتين منفصلتين في الأساس ربطهما الشاعر من خلال هذا المقطع القصير . وكذلك فإن الوزن يختلف بين النص العمودي والنص التفعيلي , فالأول على ( مفاعيلن ) , والنص الحداثي على ( فاعلاتن ) وهذا فيه بطبيعة الحال مؤشر على التنازع , علاوة على تغيير قافية العجز التي اختلفت عن المقطع الأول , حيث التزمها في الشطر الأول في كلا المقطعين التقليديين , بينما غيّر القافية في الشطر الثاني .
النافذة الثانية : التشخيص الداخلي
يمثل عنوان النص « زحمة فراغ « النافذة الأولية بفهم القصيدة , لاسيما أن الغياب وازدحام المدينة « وبعثرة أحباب – وحارس كذاب « كلها تدور حول الزحمة والفراغ , خاصة كون هذه الأيام التي قذفها الشاعر في هذه الفقرة تدل على هذا المدلول الموحي بالشتات والخوف والحنين والغربة ، لكن من يعيد النظر في كلمات هذا المقطع , ويحاول رصد ما به من كلمات « أحباب – عظامي – أقدامه – صورة مدينة – حارس كذاب – صدرك – الجسد والهامة التي تكررت كل كلمة منها مرة واحدة « يجد أن صوت الجسد والنزعة الجسدانية مرتفعة في هذا المقطع , وذلك بسبب وجود فصل معنوي مجرد بين الذاكرة المرتبطة بالنفس والروح وبين المادة المسيطرة على توجه الشاعر في بدء هذا النص . وبعيدًا عن كل شيء , وبعيدًا عن حال الشاعر في هذا النص , فإن المتأمل في كلمات هذه القصيدة لا عباراتها حتى لا يقودنا للحديث عن نفسية الشاعر من خلال هذه الصيغ التعبيرية , فقط ننظر في الكلمات دون سواها , نجد أنها أشبه بالقطيع الجميل من الظباء الذي يجول في فراغ واسع متسع لا تحده الحدود , يدور في نظام عشوائي وفي عشوائية منظمة تتراقص بين السطور وفوق الورق , وفي زوايا النص الشعري , وكأنها تجول في الذاكرة وتتراكض أو تسير في فراغ ممتد , وكأن الفراغ عالم افتراضي أحدثته هذه الكلمات قبل أن نلمسه في القصيدة .
أكاد ألمس في شعر العمانيين ما لا أستطيع أن أكتشفه عند غيرهم , وهي الاتكاء على الرمزية والتفنن الجميل في أصانيع القول وأفانين الكلام , ولا يكون في الأمر غرابة حينما يأتي اسم الشعر في سلطنة عمان إلا ويعانق الجمال الجمال , ويفرد الشعر أوردته وشرايينه قبل يديه لاستقبال هذا القادم المحمل بالشعر والمعجون بالجمال , رغم أن الجمال مسألة نسبية لا يمكن الاتفاق عليها , لكنها ارتبطت بهذا الشعر حتى صارت صفة من صفاته , ومن هؤلاء الجميلين الشاعر خلفان الثاني الذي يكتب وكأنه يتحرك فوق الغيم ويسير بين خيوط النسيم , يقدم لنا الورود وهو يعبر حقولاً من الشوك , وعلى ضوء هذا الكلام لا أستطيع أن أهدم هذا النص وأعيد بنائه وفق طريقتي , بل هو الذي هدم النمطية المخبوءة في دواخلنا وأعاد بنائنا داخليًّا من خلال لغة الشاعر ورؤيته الفنية الثاقبة . وحتى أخرج من هذه الدائرة التي تبدو دائرة تنظرية لكي أدخل جانب التطبيق العملي للقراءة , أجد من الإنصاف أن أقدم هذا الكلام بين يدي القراءة قبل مواصلة الحديث في رسم خريطة طريقي في هذه القراءة .
الذاكرة
حينما يتحول الكلام عن الشعر إلى ترف خارج الاهتمام اليومي المعتاد , تتجمد الذاكرة وتمتلئ بالفراغ الذي يشل طنينه المسامع , يصبح لا شيء له قيمة حتى الشعر , لكننا في حال أمثال هذه النصوص نشعر بنكهة المطر التي تملأ الطرقات وتتسلل عبر مسامات الجسم إلى كل ذرات الجسد , وتسافر ذهابا وإيابا بين الشرايين والأوردة , نشعر بطعم الحياة وجمال الشعر ومدى عذوبة الكلام , وكيف تتحول الحروف إلى فراشات تطير , وكيف تصبح الكلمات أشبه بطيور الكراكي التي تسافر من مكان إلى آخر تعبر الأمكنة وتسافر عبر السنين
فراغ الذاكرة لا تملؤه إلا مشاعر الفرح والإحساس بنشوة الدهشة , فما بالنا إذا كان الفراغ مزدحمًا والذاكرة خاوية مثل الصحراء التي لا توجد فيها ملامح الحياة , وهكذا هي حال الشاعر المعدومة من الأماني والأحلام , فلا أمنيات تداعب النفوس لتتسلل وتملأ الفراغ , ولا أحلام قادرة أن تتسلل لذاكرة الشاعر حتى يستحيل الفراغ المزدحم إلى حياة ممتلئة بالحياة .
إنه الفراغ الذي ازحدم في وجدان الشاعر وفي مخيلته وتسلل إلى ذاكرته , سيطر على الطرقات وعلا هامات البيوت وسكن السطوح والقمم والسفوح , وصار يتجول بين الناس في المدن , يقاسمهم الحياة ويشاطرهم الهموم , بينما ظل الشاعر واقفًا خارج كل هذه الأشياء في معزل عن كل شيء إلا الفراغ الذي يحيط فيه إحاطة السوار بالمعصم , وذلك عن طريق تكسر الفراغات في زوايا الجسد وبين طرقات المدينة والحارس الكذاب الذي تحولت كل القيم عنده إلى زحمة غير متناهية من الفراغات تمتخر عباب الذاكرة , وتسافر في اللا مكان واللا زمان , حيث لا أحد هناك , ولا شيء في جعبتها هنا .
هذه الذاكرة الملآى بالفراغ ولدت لدى الشاعر الميل إلى اتساع مسامات الجسد لا اشتعال ثورة الروح والقلب والمشاعر , لأن الصخب ملأ المكان , ولم يعد للمشاعر أي وجود , لكن المقطع الآخر للنص تنبعث الحياة في ركان المشاعر , وتمتلئ الذاكرة بالحب , ويستحيل الفراغ المزدحم إلى ورد وعطر وقصيدة , لكنها لا تنغرس فيه بشكل التصاقي في أول الأول , وإنما تطل في صحبة الأفاعي -حينما تستحيل ملامح الوجوه إلى أنياب مستعدة للفتك والتدمير , وسحق كل شيء بهي في هذه الحياة , حيث تمره مرور العابرين بلا ملامح , وتحاول أن تزرع فيه البسمة , لكنها بسمة لا تكاد تستقر إلا قليلا لتستحيل بعد ذلك إلى شتات وضجيج , إذا تتحول الذاكرة إلى شتات , ويستحيل الفراغ المزدحم إلى ضجيج يملأ الشوارع ويستقر في وجدان الشاعر , وذلك من خلال ردم الفراغ بالضجيج , وقد تحول الشاعر هنا من شخص يبحث عن لا شيء إلى لا شيء تبحث عن شاعر , فلا الأول وجد الثاني , ولا الآخر باستطاعته اكتشاف صاحبه .
إنها فلسفة الأشياء حينما تفقد الأشياء فلسفتها ، هذا ما كان مع الشاعر الذي وجد صومعته في الفراغ , وتلذذ في محراب الذاكرة , لقد كانت المدينة تضمه في أول النص , ثم استحالت عملية « الضم « بالنسبة عنده إليه من شعور نفسي لتتحول إلى جهد عملي مارسه الشاعر , غير أنه غاب في المقطع الأخير باحثًا عمن يمنحه هذا « الضم « للخلاص من ضجيج الذاكرة والتخلص من زحام الفراغ المشتعل فيه , وذلك من أجل خلق حالة من التوازن المفقود , والذي كاد أن يفلت منه في آخر القصيدة , لو لم يتدارك نفسه في الأخير .
صورة الحب
إن الذاكرة الملأى بالفراغ المزدحم دفعته للقول « ترى كل الأفاعي طيبة لو ما لها أنياب .. وأنا عندي الوجوه أنياب تقتلني وتحييني « حيث تحولت الشخوص أمامه إلى أشباح تتراءى له في الأماكن والطرقات , وكأنه في هذا الحكم القاسي المرير البشع يريد تخليص ما بنفسه من هموم وشوائب هو في أمسّ الحاجة للتخلص منها , وذلك من أجل تمكين نفسه دخول نفق الروح الضيّق الذي تضاءل مع اتساع هوة الذاكرة وتراكمات الفراغ , وهذا ما حصل له في آخر النص حيث إن الفراغ بدأ بالاحتضار , والذاكرة تعيد ترميم ما بها من تصدع , من أجل أن يتمكن من ملء روحه بالحب والحياة , لهذا يحاول الشاعر ردم الهوة المتسعة في ذاكرته من خلال اللقاء بمن يحب , وذلك من أجل أن تمتلئ روحه بالحب , ولا يعود الفراغ مزدحما بالفراغ , بل من أجل أن تعود الحياة لروحه المهشمة وتعود إليه ذاكرته التي غادرته إلى الفراغ أو حل فيها الفراغ ,. لهذا بمارس الشاعر مناسك الحب , ويتعبد في محرابه « يا حلوك .. أخاف « حيث تجتمع لديه الرغبة والرهبة في هذا الكلام , الرغبة في التواصل , والرهبة من عودته لما كان عليه ، لذا نرى الشاعر يتخلص من فوضى الضجيج وعويل الفراغ للوصول إلى من يحب حتى يسكن في عيونه متمنيا الخلاص من السفر والدروب والمدينة والناس , والملاحظ أن صوت الحب والنشوة بلقاء الأنثى لم تتضح ملامحه إلا في آخر النص , وكأن النص عند الوهلة الأولى نص إنساني تأملي لا نصًّا عاطفيًّا , وذلك أن ملامحه النهائية لم تتضح إلا عن الانتهاء من قراءته , إذ أن كل شيء مختفٍ , ويعاني من الفقدان , وهو في هذا الفقد وعدم الوضوح ناتج بسبب فراغ الذاكرة وازدحام الفراغ باللا شيء , فلا مكان للأشياء خاصة المحبوبة , لهذا جاءت صورة الحب في الأخير , وذلك بعد أن تخلص الشاعر من كل شوائب الفراغ والضجيج والناس والمدينة
نافذة أخيرة :
من يقرأ النص مرة أخرى بمعزل عما كتبته عنه سابقا يدرك أن الشاعر تتنازعه روح المتصوف المتأمل والمتشرد الباحث عن الأمان , وهو بين تأمله وتشرده يحاول ملء فراغه العنيد المتغطرس بما يلبي له هذه الرغبة , وهي الحياة والحيوية , الحياة من خلال المتصوف المتأمل , والحيوية عن طريق المتشرد الباحث عن الأمان , لهذا يجد لذته في الانغماس بنشوة الارتماء في عيون المحبوب حتى يكوّن له العالم المفقود من ضجيج الذاكرة وذاكرة الفراغ , لهذا يريد السكنى في هذا العالم حتى يعيش لحظة أخرى , هي لحظة التصوف والتأمل في هذا المحراب , ويمارس نشوة التمرد من خلال الحب على نفس الدرجة
هذه الحالة لم تكن مقترنة بالناحية الفنية للنص , بل هي كذلك مرتبطة بالجانب الشكلي للقصيدة حيث رأينا في بداية هذه القراءة تداخل الحداثة بالنمطية , وشاهدنا الانتقال من قافية لقافية , وكأن هذا النزوع متأصل مع الشاعر في هذا النص , ولم يأتِ كحالة عَرَضية .
محمد مهاوش الظفيري