بين حينٍ وآخر تسرد لنا أمي بعض القصص والذكريات التي لازالت تحتفظ بها في صندوق الذاكرة
من ذلك الماضي الجميل بعفويته وبساطته وطيبة أهله , فنظلُّ جالسين على الأرض ننصت بشغف لشيء من تلك الحكايات الجميلة بل والأشعار أحياناً أخرى
وبما أن الحديث اتسع قليلاً للخوض في بحر الشعر فهي فرصة لكي أعرفكم بشاعرة من ذوات القُربى هي الشاعرة عائشة علي يرحمها الله أو كما يسمونها « عاشة عليّة » فهي جدة أمي وبالتالي كان من الطبيعي أن تحتفظ ذاكرتها بشيء من أشعار تلك الجدة وإن كان المحفوظ لا يعدو كونه مقطوعات قصيرة
ونتيجة لولعي وشغفي الشديد بقراءة الشعر وسماعه فكان ذلك أدعى لأن تلقي أمي على مسامعي شيئاً من أشعار تلك الجدة
ومن ذلك على سبيل المثال هذه الأبيات التي قالتها وهي تبثُ من خلالها مشاعر الحنين واللوعة والشوق إلى ديار النشأة والميلاد وأقصد بها هنا قرية ( شقيق ) وهي قرية صغيرة تابعة لمنطقة جازان جنوب المملكة العربية السعودية حيث غادرتها الشاعرة مع زوجها وأسرتها وسكنوا في جدة فقالت آنذاك :
شِقيقية يا رب
تسقي بلدها
تُحُطّني في الجوف
كأنّي ولدها
وأنا وليد الناس
ماني ولدها
حيثُ حملها حب تلك الديار وشوقها إليها إلى تشبيهها بالأم التي تحنوا على أطفالها وأطفال غيرها من شدة عاطفة الأمومة لديها
و مما تحتفظ به ذاكرة أمي من قصائد جدتها أيضاً هذه الأبيات التي تعد بمثابة وصيّة كانت قد أوصت بها الشاعرة أهلها وذووها لتطبيق ما ورد فيها متى ما حانت لحظة الوفاة حيث تقول يرحمها الله :
إن مِتْ يا هلي بالخلا روحوا بي
ومن الجِرار الباردة غسِّلوني
ومن العِطار الحالية عطِّروني
ومن الثياب الحانية كفِّنوني
في عرسة البيت احفروا وادفنوني
ومن القصائد الجميلة التي تحتفظ بها ذاكرة أُمي كذلك هذه الأبيات الجميلة ولكنها لشاعرة أخرى تسكن في أحد أرياف جنوب المملكة وهي امرأة طاعنة في السن تعول أبنائها بعد فقد زوجها الثاني حيث قصّت الشاعرة على أمي هذه القصيدة التي هي عبارة عن محاورة شعرية بينها وبين زوجها ألأول الذي مرّ ذات يوم بجوار بيتها فحياها بتحية الإسلام ثُمّ أنشد يقول :
حليمة يا الأجوديّة
عيدي لي قصة شبابك
من الذي كان يحبِّك
ومن الذي دقّ بابك
فاستاءت الشاعرة من هذه الأبيات وصبّت جام غضبها وسخطها من خلال بيتين ردُت بها عليه قائلة:
ايش فيك يا بو عليّة
ايش اللي ذكّركِ بيّ
والــله لوما تِولّي
لأرميك بالمطبقية
والمطبقية لمن لا يعرفها هي نوع من أنواع الأواني المنزلية المستخدمة لحفظ الطعام ولكن الشاعرة استخدمتها هنا كوسيلة تهديد وسلاح للضرب (والله المستعان)
هذا غيض من فيض مما تحتفظ به ذاكرة أمي من حكايات وأبيات آمل أن تكون قد راقت للقارئ الكريم