توطئة :
بعيدًا عن العبارات الشعرية الجاهزة كنص مفعم بالحزن , أو قصيدة تضج بالأس وتتوشح الكآبة .
فمثل هذه العبارات الفضفاضة تضر بالنص الشعري الجيد , أكثر مما تنفعه , مع يقيني التام والجازم أنها تؤثر في نفسية الشاعر , لكن تأثيرها آني , سرعان ما تزول آثاره من النفس , لاسيما لدى أنصاف المثقفين من الشعراء والمهتمين في هذا المجال . أما القراء المتمكنون للنصوص , فلا يرضيهم إلا استكشاف النص , والسفر بين خباياه للوصول للجمال الفني المأمول
ونحن في هذا النص الذي يحمل عنوان « رماد أحلام « للشاعر العُماني عبد العزيز السعدي , سنحاول قراءة ما وراء النص من أجل الوقوف على ما يحمله من كنوز جمالية ومعانٍ إنسانية
إن مثيلات هذا النص بحاجة إلى لغة أخرى , وبحاجة إلى تفكير وتأمل لاستكشاف البعد الجمال والعمق النفسي والفلسفي فيها , لهذا لا بد من كتابات جادة , لا تتناغم معها شعوريًّا , بقدر ما تسمو بها , وذلك من خلال علاقة الإنسان بالإنسان , وموقف الشاعر من القصيدة , ونظرته الخاصة إلى الحب , باعتباره مشروع حياة
القراءة :
شفني رماد أحلام وحشة مشاويـر
و أطرق على شباك ليلي غيابـك
و أكسر قناديلي كذا دون تقصيـر
ياما أنكسر حظي على أعتاب بابك
في هذا الاستهلال يتوجه الخطاب من الشاعر إلى المحبوب , والذي من الممكن أن يكون إنسانًا أو قصيدة , وهذا على سبيل العموم لا التخصيص , أي أن هذه الحالة غير ممكنة مع هذا النص , الذي تدور حلقاته حول مسألة علاقة إنسانية بين طرفين . لأن مثل هذا حقيقة لا يضيف للمتلقي أي قيمة فنية , بل الذي يريدة المتلقي من أي نص شعري هذه الشحنات الحرارية الشعورية التي صورها لنا الشاعر في المقام الأول , لأن دورنا ليس الكتابة التوثيقية لمواقف هذا الشاعر أو ذاك , بل الكتابة لرسم وجه آخر للجمال عن طريق هذا النص . لهذا يسعى الشاعر إلى مدنا بهذه الصور الشعرية التي نثرها في هذا النص .
تبدأ القصيدة بقولة « شفني « , فهذه العبارة الشعرية سوف نتوقف عندنا كثيرًا فيما بعد . لقد بدأ الشاعر هذا الخطاب الشعري بهذه الكلمة , وذلك من أجل شد انتباهه لما يريد قوله , وذلك من أجل خلق الشفقة والخوف في روح المخاطب لكي يصغي لكلام الشاعر . فهو يتعامل مع هذه الثنائية المسرحية – كما هو في المسرح التراجيدي اليوناني القائم على عنصري الخوف والشفقة , وهذا ما سنراه من خلال مسيرتنا في هذه الوقفة . فالشاعر هنا حاول جذب المحبوب والمتلقي إليه , وشد الأنظار والأذهان لِمَا ينوي التصريح به , وهذا ما سنراه في هذه القصيدة
أهديت نبضك من جنوني تعابيـر
تتلحف بشعري وتلحـق سرابـك
و أهديت عودك في جفافه عصافير
تسترخي بحضنه وتحضن عذابـك
هذه الثنائية الشعورية النابعة من حالة الاستفزاز العاطفي , تدخل في هذه المشاهد , وفي كثير من الأحيان تلتقي لدرجة التمازج , لكن الملفت أن الشاعر لا تحركه عقدة الخوف من المقابل / المحبوب , بقدر ما يحاول تحريك عنصر الشفقة فيه بالدرجة الأولى , وهذا واضح من خلال اعتماده على بعض العبارات الشعرية الموحية بهذا السياق « أهديت « التي تكررت مرة في كل بيت , وكذلك قولة « جنوني تعابير « , وذلك من أجل فتح المجال للتخيل وإمكانية تصور الموقف الإنساني الخاص به , وذلك أنه مستمر في إقناعه بالعودة وبضرورة اللقاء مرة أخرى « وتلحق سرابك – وتحضن عذابك « , فهذان التعبيران يوحين بالأسى وتحمل مرارة الحزن , فالسراب طريق مليء بالمرارة , والعذاب ألم لا يمكن تحمله , فما بالنا إذا كان السراب « يُطرد « أي يتم الجري وراءه من أجل اللحاق به , وما بالنا بالعذاب الذي « يثحضن « . فأي حياة ستكون ؟! , ومن يستطيع تحمل ذلك ؟!
عودتني والصبح في دربي يسير
أسرح وأصافح في زحامي ضبابك
و علقتني بجناح حلمك ولا أطير
و علمتني أسري سكيك أغترابـك
مرت سنة أسقي شموعي معاذير
و أنا انتظر هالوقت يجمع سحابك
ماتت شواطي دنيتي و النوافيـر
و مات الكلام بشفتي لا حكى بك
في هذه المقطوعة يطغى هاجس الخوف من المستقبل على تحفيز شعور الشفقة في نفسية المحبوب تجاه الشاعر , وذلك أن هذا المشهد المتواصل لا يرسم للشاعر الأمل باللقاء أو التواصل , وكأنه جاء كجلد للذات ومحاسبة للنفس , مع العلم أن تداعيات هذا الهاجس مسيطرة على الجو العام للنص , لكنه بارز في هذا الكلام . فهو يتوجس من الضياع والشتات , وخائف على هذا الحب من التلاشي , لهذا كان استدعاء عنصر هذا التلاشي , الموحية في آخر هذه الأبيات , جاء كمحصلة نهائية لهذا التوجس , فكل ما كان يقوله , من ضياع للصبح المتمثل بالأمل في الحياة , وعدم مقدرته على الطيران والتحليق في سماء حبه , وهذا الطريق الطويل من الاغتراب « أسري سكيك اغترابك « , وانتظاره الطويل والمرير على مدار سنة كاملة , قد ماتت « شواطيه ونوافيره « واضمحل الكلام بين شفاهه . إن حضور مفردتين تشيران للماء , وهما « شواطي – النوافير « دليل على سيطرة القحط الشعوري على عاطفة الشاعر , لأن الماء كما هو معروف من علامات الخطب والعطاء , ومؤشر على الحياة , وما هذا الكلام إلا نتاج لهذا الشعور بالخوف , لأن الخوف هو الذي حرّك فيه كل هذه المشاعر التي استفزت فيه هذا التوجس , الذي تفرد هنا في هذا المقطوعة , مع العلم أنه في أماكن أخرى من هذا النص , يتمازج مع الإحساس بالشفقة , أي أنه يتمازج مع محاولات الشاعر من استدرار عطف المحبوب للشفقة عليه .
هذا الهاجس المواكب للموت , الموت الإيحائي , الناتج عن سيطرة القحط العاطفي على شعور الحب لديه , جعله يفقد متعة الإحساس بجمال الصبح وروعة الحلم , لأن في الحب صباح جديد وحلم لا يتمنى العاشقون أن يصحوا من إغفاءته الجميلة
هذي المرايا تذبح الحلـم و تغيـر
و ذيك الشوارع خالية من صحابـك
و هذا الحزن من غيبتك لي طوابير
و هذا المسا مكسور ما قد ضوى بك
وها هو يعود لمحاولة استدرار عطف المحبوب عليه , عن طريق هذا الحضور الإشاري , نسبة لأسماء الإشارة « هذي – ذيك – هذا – هذا « , وذلك من أجل إشعاره بمدى الحميمية التي له في قلبه , ومن أجل تحفيز لمخزون الذاكرة لديه , لكي يتذكر الأيام الخوالي التي قضوها سويًّا . غير أن الناظر لهذين البيتين يجد أن مخزون الذكريات لديه نوعان , وهم حسي ومعنوي , فالحسي مرتبط بالمرايا والشوارع , والمخزون المعنوي مرتبط بالحزن والمساء , فهو حينما ينظر للمرايا , إنما يريد إستكشاف الغيب فيه , وكذلك يريد النظر إلى ملامحه التي غيرها الفراق والغياب , أما حينما يمشي في الشوارع , فيجد أنها خالية منه , أي أنها شوارع بلا قيمة , وذلك أنها كانت تعيش فيه ومن أجله , لهذا يرى أنها شوارع خالية من الحياة بسبب هذا الفراق . أما المخزون المعنوي , فيتفجر عن طريق تحريض الذكرى في كيان الشاعر , والملاحظ أن هذا المخزون المعنوي مرتبط بالأسى , حيث أن الحزن له دلالة واضحة بهذا التوجه , كما أن الليل , أو « المسا « في تعبير الشاعر , محرض على الذكريات وموحي بالشعور بالوحدة والإنعزال , أي أن كلا المدلولين مرتبطان بالأسى , وكذلك « المرايا – الشوارع « لهما ارتباط بهذا الفهم الإيحائي للحزن , وهذا شيء طبيعي في هذه العملية , فلولا الإحساس بالحزن والأسى , ما تولد في كيان الشاعر الشعور بالخوف , ولَمَا دفعه هذا الخوف , لمحاولة استدرار جانب الشفقة في نفسية المحبوب , فالشعور بالوحدة جلب له الذكريات , والذكريات قادته للتأمل والحزن , والحزن فجّر في وجدانه هذه الثنائية الشعورية : الخوف / الشفقة
شف صدري اللي ضيقته الأزاريـر
ما فكها حلـمٍ علـى الليـل جابـك
وشوف أول أحلامي مسافات و أسير
و شفني عطر يحلم يعانـق ثيابـك
و شفني مواويل الوجع رحلة الطير
و شفني شجر مات بخناجر ترابـك
و شفني ظما مطرود من رحمة البير
كلما سألني غـاب فينـي جوابـك
لو حاولنا رصد الكلمات الموحية بتعلق الشاعر بالمحبوب لوجدناها كثيرة في هذا النص , مثل « عودتني – علمتني – علقتني – أنتظر « , لكنها تنحسر رغم أهميتها في هذا السياق أمام العبارة الشعرية المكثفة , والتي جاءت مع المفردة « شفني « التي تكررت في هذا النص , حتى كاد هذا التكرار أن يقتل الروح الشاعرية الساكنة فيه , إلا أنها من جانب آخر تشير إلى مدى تعلق الشاعر بالمحبوب , والتي كادت أن توصله لدرجة الهذيان الشعري المرتكز على كثافة هذا التكرار , فهذا التوظيف الشعري لهذه الكلمة « شف – شوف - شفني « يتناغم من حيث الإحساس والتواصل مع الحالة مع أسماء الإشارة التي تطرقنا لها , لأن التوظيف جعلنا نتخيل الشاعر وهو يتوسل المحبوب , خوفًا من استمرار الضياع وطول مدة الغياب , من ناحية , ومن ناحية أخرى , من أجل إحداث روح الشفقة في نفسه عليه , وهذا في تصوري , هو جوهر الحب , والشعور الصادق لعكس هذا الموقف الإنساني . فالحب القائم على التعامل النّدي مع المحبوب ليس حبًّا , لأن ثقافة التنازل مطلوبة في مثل هذه العلاقة , وهي مأخوذة من الفهم الحقيقي للدين « فأعرض هذا وأعرض هذا , وخيرهما الذي بدأ بالسلام « كما هو – ما معناه - في الحديث النبوي الشريف , لأن العودة للأصول الروحانية في التعامل مطلوبة وملحة في هذا الجانب , فمهما فعلنا أو قلنا , فلن نبقى معزولين عن هذا النسق الديني بحال من الأحوال , وهذا ما حاول الشاعر إبرازه في هذا المقطع , وفي عموم القصيدة كذلك
هذي سنة و الحال ما عاد به خير
شفها شموعي تنطفي من غيابـك
يقول بدر شاكر السياب « إن موتيَ انتصار « , وهذا يتناغم مع فكرة طائر الفينيق كما في القصص الأسطورية عند الشعوب القديمة , أي أن في الموت حياة « والموت للشعراء عمرٌ ثانِ « كما يقول الشاعر العربي , وفي انطفاء دموع الشاعر هنا محاولة لإعادة بعث جديد « شفها دموعي تنطفي في غيابك « , فهذا الحضور للغياب لم يكن حضورًا من أجل توصيف حالة , بقدر ما هو حضور من أجل إطالة عمر هذه العلاقة , لا على المستوى الحسي الملموس عن طريق عودة المياه إلى مجاريها – كما يقال – بل من أجل أن يكون هذا الانطفاء روحًا متوثبة , تشتعل كلما انطفأت إن محاولة العودة الخاطفة لأول بيت في هذا النص « شفني رماد أحلام « تأكيد لهذا الانسجام النفسي بين الخاتمة والمطلع , وأن « رماد الأحلام « جاهزة للإشتعال مرة أخرى , حالها كحال الدموع التي « تنطفي من غيابك « . لهذا يظل هذا النص , وكأي نص جميل آخر , مشروعًا للتخيل , لا على سبيل كتابته , بل على مستوى التعامل معه كقراءة أدبية تحاول تلمس بعض الجوانب الإشعاعية فيه , من خلال تفكيكه ومن ثم إعادة لملمته من جديد , رغبة بالوصول إلى العمق النفسي المنشود عن طريق هذه العملية