( 1 )
في رأيي أن أبا الطيب المتنبي لم يترك شيئاً للشعراء من بعده لمدح شعرهم بأنفسهم، حين قال في بيته الشهير:
أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي
وأَسمعَتْ كلماتي من به صَمَمُ
وإذ يحق له، في رأيي، أن يفاخر بشعره، إذ اتفق الكثيرون من المُنصفين المدركين، شعراءً ونقاداً وقراءَ شعر، بأنه كما وصفه أحدهم <مالئ الدنيا وشاغل الناس>، إذ بقي شعره يتجدد ويمارس الإدهاش والإنعاش حتى عصرنا هذا، وإلى ما يشاء الله من العصور القادمة، ومن جاؤوا من بعده من الشعراء المعجبين بأنفسهم ظلوا يدورون في فلكه من هذه الناحية بشكل خاص، أعني مدح شعرهم بأنفسهم، تبعاً لكونهم لم يبلغوا حدود أبعاد موهبته ذات الإعجاز الشاعري، ومن الطبيعي جداً أنهم لن يستطيعوا تجاوز سقف مديحه العالي لشعره، ومهما حاولوا المبالغة، فستبقى أقل من أن يرى الأعمى ويسمع الأصم، إلّا إذا قال أحدهم إن شعره يبعث مَنْ في القبور، وربما لا شيء يمنع بعضهم من ذلك إلّا الخوف من ورطة التكفير من دون أن يُقال إنه متنبي جديد!
( 2 )
وبما أني لا أتحدث هنا عن مدح بعض الشعراء لشعرهم من خلال الأحاديث العادية والمقابلات، لكن أعني المديح الذي يدبجونه لشعرهم في قصائدهم، فإني أظل أتساءل كلما قرأت شيئاً من ذلك النهج النرجسي المكرر المقلد السمج، عن إمكان وجود الشعر من خلال القول (أنا أفضل الشعراء وشعري لا يُعلى عليه ) لأنه قول يختصر بمعناه كل ما وجد -وكل ما سيوجد- من ذلك المديح للشاعرية الذاتية، فمهما تنوعت النغمات والزخرفات اللفظية، فإن مجمل المسألة وبأقصى حدودها لا يتجاوز معنى ذلك القول، خصوصاً عندما نحذف زوائد البهرجة وأورام الفذلكة في بعض القصائد التي تكون كلها مديحاً للشاعرية الذاتية ولشعر شاعرها.
وحيث أظل أجد أن المعنى لا يتعداه في كل قصيدة تحمل مدحاً ذاتياً لشعر شاعرها، فإني حتى الآن لم أجد ما يمكن أن يكون شعراً حقيقياً من إبداع الشاعر نفسه، وغير مكرر، ويمكنني قبوله كشاهد للشاعر كما هو الأمر مع مدح المتنبي لشاعريته.
( 3 )
رغم أنه يجدر بنا أن نحفظ للشاعر حقه في الثقة بنفسه، والتعبير عن تلك الثقة بما يشاءه من كلمات وعبارات، فإنني أشك في حقيقة أن إعجاب الشاعر بذاته ومديحه بنفسه لشعره بأساليب مكررة، هو شكل من أشكال الثقة بالنفس المعافاة من داء الغرور، إن لم يكُن على العكس من ذلك تماماً، دليل ثقة مزعزعة وشعور بعُقَد النقص المغلفة بالغرور الأجوف، خصوصاً إذا تم ذلك عن طريق مدح الشاعرية الذاتية عبر قصائد مكررة لا يوجد للشاعر فيها فضل ابتكار شيء من حيث المعنى إذا تجاوزنا المبنى... أما عندما يصل مدح الشاعر لشاعريته في قصيدته إلى حدود الانتقاص من الشعراء الآخرين، والحط من قدر شعرهم، عبر أي تعبير يأتي فيه مدحه على حساب سواه، فإنني أعتقد أن الأمر يتجاوز حدود الثقة المزعزعة والغرور الأجوف، إلى العدوانية تجاه الشعراء الآخرين وشعرهم، وأظن أن أي شاعر يصل إلى هذا المستوى من الاستخفاف بسواه هو مريض بنرجسية فتاكة، تجعله لا يتعامل مع أي شعر آخر غير شعره، وإن فعل فإنه تعامل عبر الكراهية، لذلك لا يستفيد من تجارب وعطاءات سواه، ويظل يراوح في برجه العاجي، متغزلاً بنفسه ولا يتعامل مع شيء إلّا من خلالها، فيتزايد جهله الثقافي حتى الموت.
( 4 )
أنت حرٌّ أيها الشاعر بأن تمتدح نفسك وشعرك، سواء بكلام عادي أو بقصائدك، لكن لا تنسَ أنك بذلك كما لو تحاول أن تفرض على المتلقي أن يعجب بك كإعجابك بنفسك، لكن الآخرين أحراراً مثلك، ولن تستطيع أن تفرض عليهم الإعجاب من دون أن يجدوا ما يعجبهم منك وفيك حسب ذوقهم وقناعاتهم، وهذا متوقف على كيفية تعاملك مع الشعر ومعهم، وعندما تقول بالحديث العادي أو بقصيدة إن شعرك أفضل الشعر وأن الشعراء الآخرين أقل منك، فإنك لن تقنع المتلقي الواعي بذلك، بل سيعتبرك مستخفاً به، وسيعتبرك متجاوزاً حدودك ومتعدياً على ذوقه وخياراته، وهذا ما قد يترك لديه انطباعاً قد تصل نتائجه إلى حد إلغائك تماماً من اهتمامه، فهو يدرك أن أكبر فاشل في الدنيا يستطيع أيضاً أن يقول إنه أفضل مبدع في الدنيا، لكن الإبداع الحقيقي هو ما يمتدح مبدعه لدى الآخرين من دون حاجة إلى مديح نفسه.أما إذا كان المتلقي الواعي لا يهمّك أساساً، فإن كتابتي هذه ليست موجهة إليك!!